كانت تجلس على شرفتها تنتظر قدومه… مرّت فترة طويلة ولم يات لزيارتها… تشتاق له كثيرًا.. هو أصغر أبنائها… تزوج منذ أشهر قليلة… ومنذ ذلك الحين لم يأت إليها إلا مرات قليلة… بعد زواجه انتقل للسكن في مدينة أخرى بعيدة عن سكن أمه… كل يوم تتصل به لا يرد عليها… وتعذره… تقول لعله في عمله ولا يستطيع أن يجيب على هاتفه… وتجلس تنتظر أن يهاتفها حين يفسح له المجال… لكنها تنتظر طويلًا ولا يرن الهاتف… أيام العطل… تعد له الطعام الذي يحبّه… تتصل به… ولا يردّ… ترسل له رسالة مكتوبة… مصطفى حبيبي أنتظرك اليوم وزوجتك على طعام العشاء… مشتاقة لكم كثيرًا… ابذل كل جهدك لتأتي إليّ… قلبي مشغول جدًّا عليك… مرّت أيام طويلة دون أن أراك… ما بالك حبيبي… هل تشكو من شىء… طمئني عنك… وتبقى الرسالة دون جواب… 

شكت أمرها لابنها محمّد… هو أكبر أبنائها وله تأثيره على إخوته… طلبت منه أن يذهب لزيارة أخيه في مكان عمله أو سكنه ليطمئن عليه ويخبرها بوضعه وعن سبب ابتعاده الطويل… وعدها محمّد بالذهاب إليه في نهاية الأسبوع وأن يطمئنها عنه وعن زوجته…

محمّد كان قلقًا أيضًا على مصطفى… منذ أشهر لم يرد عليه ولو لمرة واحدة… لم يخبر والدته بذلك… لكن زادت قناعته بضرورة زيارة مصطفى لمعرفة سبب قطيعته للأهل…

في نهاية الأسبوع… ذهب محمّد لزيارة أخيه… سافر إليه صباحًا… لم يعد يذكر موقع منزل مصطفى جيدًا لكنه سأل عنه كثيرًا ولم يحصل على جواب… انشغل باله أكثر… أين منزل أخي… لا يرد على الهاتف كالعادة… كيف يصل إليه… لا يدري… وتابع تجواله في الحي الذي يذكر أنه أوصل مصطفى وعروسه إليه… وتابع البحث إلى أن أوقف رجلًا كبيرًا في السن… أجابه العجوز هل تعني ذلك الشاب الذي صدمته سيارة وهو في حالة إغماء في المستشفى… صدم محمّد بالخبر… ترى هل هو شقيقه… هل هذا سبب عدم إجابته على الهاتف… العريس الحبيب في المستشفى… كيف حصل هذا… لماذا لم يخبر الأسرة بحالته… أين زوجته… طلب محمّد من الجار أن يوصله لمنزل أخيه… سار العجوز أمامه وهو يحكي له عن حادثة أخيه… قال له منذ أشهر كان مصطفى ذاهبًا إلى عمله… وإذ بسيارة تظهر فجأة وتصدمه… وقع مصطفى وسط دمائه… سارعوا في طلب الإسعاف التي أخذته إلى المستشفى فاقدًا لوعيه… وهناك يخضع للعلاج منذ فترة.. لكنه ما زال لا يعي شيئًا حوله…

وصل محمّد إلى منزل شقيقه… قرع الباب… بعد دقائق فتحت زوجة الأخ الباب… لم تكن تتوقع رؤية شقيق زوجها أمامها… بكت حين رأته… وقالت هل علمت بمصاب أخيك… مسكين… هو في المستشفى منذ أكثر من شهرين… لا يعي شيئًا من حوله… لم أشأ إخباركم بحالته… انتظرت حتى يتحسن حاله قليلًا وأخبركم…

ذهب محمّد إلى المستشفى لسؤال الأطباء عن حالة أخيه… أخبروه أن تحسنه بطيء… ولكن الأمل كبير بشفائه… سألهم إن كان ممكنًا نقله إلى مستشفى آخر في العاصمة… لم يعترضوا… وقالوا إنه بإمكانه فعل ذلك بعد تأمين سيارة إسعاف مجهزة لمثل هذا الأمر… وصل مصطفى إلى المستشفى قرب منزل أمه… وضع تحت المراقبة مجددًا… لم يخبروا الوالدة بوضعه خافوا عليها من أثر الصدمة… لكن قرروا في النهاية أن يخبروها… كي تراه ولو على ما هو عليه من غيبوبة…

المصائب تطرق أبواب بعض الناس فتكسر ظهورهم… وبعضهم يصبر ويشكر الله على كل حال… ويتوجه بالدعاء أن يذهب الله عنه ما يكره… هم يعلمون أن الأمر بيد الله، أي يتصرف في ملكه كما يشاء… يفعل ما يشاء… يبتلي فلانًا ويعافي الآخر… وأن الفائز هو من لا يعترض على الله بل يصبر ويشتغل بالدعاء والذكر والصلاة على رسول الله ﷺ…

أم محمّد كانت تتوقع أن شيئًا قد أصاب ابنها… إذ ليس من عادته أن ينقطع عنها لوقت طويل دون أي خبر… ذهبت لرؤيته في المستشفى… وقفت أمامه… لم تستطع إيقاف دموعها… هو صغيرها العريس الحبيب… أمسكت بيده… قبلت رأسه… وصارت تدعو له بالعافية والشفاء…

مرّت أيام قاسية… أمضتها والدة مصطفى بقرب ابنها… لم تفارقه… كانت تمسك يده دائمًا وتدعو له باستمرار… بعد حوالي الأسبوعين… أحست بحركة خفيفة… مصطفى يحرك يده ببطء… فرحت المسكينة كثيرًا… عاد الأمل لقلبها من جديد… قامت بسرعة تخبر الطبيب بما حصل… حضر الطبيب وعاين مصطفى… طمأنها أن ابنها في وضع جيد وأنه يتماثل للشفاء…

كانت الأيام الأخيرة رغم صعوبتها تحمل أخبارًا سعيدة في نهايتها… أفاق مصطفى من غيبوبته… كانت أمه أول من وقع نظره عليها… زوجته أفرحها كثيرًا أن مصطفى قد تعافى من مرضه… وعادت البسمة مرة أخرى ترتسم على شفاه الأم الحزينة…

أعدت أم محمّد العشاء لأولادها وأسرهم… هذه المرة لم يكن انتظارها دون نتيجة… جاء الجميع… مصطفى كان بينهم… الاجتماع الطيب للأسرة تكرر مرة أخرى… وكانت الأم أكثرهم فرحًا بأبنائها وأحفادها…