الحمد للّه الذي هدانا للإسلام، ومنّ علينا ببعثة خير الأنام، وأنعم علينا بآيات القرءان الكريم. 

أما بعد، فإن الله تعالى قد منّ علينا بنعمة عظيمة هي نعمة القرءان العظيم، التي هي كبرى معجزات رسولنا محمّد ﷺ، فلقد أنزله الله على رسوله ليخرج به من ظلمات الجهل والضلال إلى نور العلم والهدى ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ سورة إبراهيم/1، وذلك بالعمل به والتدبر والاتعاظ بآياته، فهو حجّة على العالمين وآية على صدق رسالة عبده محمّد الصادق الوعد الأمين ﷺ.

وإن مما أنزل الله على عبده ونبيّه محمّد ﷺ آية جاء الخبر فيها أنها سيّدة آي القرءان، ألا وهي آية الكرسيّ، ولعظيم شأن هذه الآية ينبغي فهم معانيها وتدبّر كلماتها، فإن هذه الآية تبدأ بذكر صفات الله تعالى وتنتهي بتنزيه الله وتعظيمه سبحانه وتعالى. روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «لكلّ شىء سَنَام وإنَّ سَنَامَ القرءانِ سورةُ البقرةِ، وفيها آيةٌ هي سيّدةُ آي القرءانِ، هي آيةُ الكُرسي» وسَنَامُ الشىء أعلاه، والمعنى أن سورة البقرة أعلى القرءان وأرفعه، ومعنى «سيّدة آي القرءان» أي أنّها أفضل آية في القرءان، وذلك لما احتوت عليه هذه الآية من المعاني التي فيها توحيد الله تبارك وتعالى.

قال تعالى: ﴿الله لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ سورة البقرة/255، في هذه الآية وصف الله نفسه بأنّه لا إله سواه أي لا أحد يَستحقّ أن يُعبَد ويُتذلّل له نهاية التذلّل إلّا الله سبحانه وتعالى، وأنّه حيٌّ بحياةٍ أزليّة أبديّة ليست بروح ودم وجسد وليست كحياة غيره، فهو حيٌّ لا كالأحياء موجودٌ لا كالموجودات. وفي هذه الآية أيضًا إثبات صفة القيام بالنفس للّه تعالى، وهي عبارة عن استغنائه تعالى عن كل شىء واحتياج كلّ شىء إليه، العالم من سماوات وأراض وعرش وجنّة ونار وملائكة وغير ذلك بحاجة إلى الله، والله تعالى غنيٌّ مُستغنٍ عن العالمين، فلا يَنتفع سبحانه وتعالى بطاعة الطائعين ولا يتضرّر بمعصية العصاة، ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) سورة فاطر.
ولا يجوز تفسير القيّوم بأنّه القائم فينا أي داخل في أجسادنا كما يظنّ بعض الجهال، بل معناه المدبّر لجميع الأشياء، الدائم الذي لا يزول.

وأما معنى ﴿لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ فهو أنه لا يصيبه نُعاسٌ ولا نوم لأنّه منزّه عن التطوّر والتغيّر والانفعال، فاللّه سبحانه وتعالى خلق فينا الانفعالات والتطوّرات، وأما هو فلا يكون ذا انفعالات ولا ذا تطوّرات لأنّ خالق الشىء لا يكون موصوفًا به، قال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه: «أَنَّى يُشبِهُ الخالقُ مَخلوقَه» أي لا يشبه الخالق مخلوقه.

وأما معنى: ﴿لهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِفهو أنّه مالك ما في السماوات وما في الأرض، أي مالك من هم من ذوي العقول كالملائكة والإنس والجنّ، وغير ذوي العقول من البهائم ونحوها، فاللّه تعالى مالك ذلك كله.

وأما معنى قوله تعالى: ﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلّا بِإِذْنِهِ فهو أنه لا أحد يشفع عند الله إلا بإذن الله. والشّفاعة هي طلب الخير من الغير للغير، أي أنّ الشّفعاء يطلبون من الله إسقاط العقاب لبعض العصاة من المسلمين من أهل الكبائر. والشفاعة نوعان: شفاعة عند المحشر قبل دخول بعض عصاة المسلمين النّار، وشفاعة بعد دخولهم النّار، قبل انتهاء المدّة التي يَستحقّها العاصي المتلبّس بالذّنوب الكبيرة ومات ولم يتب منها، قال رسول الله ﷺ: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» رواه الترمذي وابن حبان. فالرسول عليه الصلاة والسلام يشفع لأمّته ولغير أمّته من عصاة المسلمين. والشفعاء يوم القيامة هم الأنبياء والملائكة والعلماء العاملون والشهداء (أي شهداء المعركة). وأما الكافر فلا يشفع له أحد يوم القيامة لا من الأنبياء ولا من غيرهم بدليل قوله تعالى:  ﴿وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾ سورة الأنبياء/28، أي إلا لمن مات على الإيمان.

ومعنى: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَىْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء أي أنّ أهل السماوات وهم الملائكة وأهل الأرض بما فيهم الأنبياء والأولياء من الإنس والجنّ لا يحيطون بشىء من علم الله إلا بالقَدْرِ الذي علّمهم الله إيّاه، حتى سيّدنا محمّد ﷺ لا يعلم كل الغيب، وقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه ضاعت له ناقة فقال بعض الكفّار مستهزئًا بالرسول: إنّ محمّدًا يزعم أنّه يأتيه خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته التي ضلّت، فقال رسول الله ﷺ: «لا أعلم إلا ما علّمني الله، وقد دلّني الله عليها» رواه ابن حجر في فتح الباري، فذهبوا فوجدوها في المكان الذي أخبر عنه عليه الصلاة والسلام، فلا أحد يعلم الغيب كلّه إلا الله سبحانه وتعالى.

وأما قوله تعالى: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فالكرسيّ هو جِرمٌ عظيم خلقه الله في العالم العلويّ، وجاء عن رسول الله ﷺ أنّه قال: «ما السماواتُ السبعُ مع الكُرسي إلا كحلقةٍ مُلقاة بأرض فلاة» رواه ابن حبان. والفلاة هي الصحراء، أي أنّ السماوات السبع بالنسبة إلى الكرسيّ كحلقة في أرض فلاة، ثمّ قال عليه الصّلاة والسّلام: «وفضلُ العرش على الكرسيّ كفَضْلِ الفلاة على الحلقة» أي أنّ الكرسيّ نسبته من العرش كنسبة الحلقة من الفلاة، فسبحان الله الخالق العظيم.

قال تعالى: ﴿وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا أي أنّ الله لا يتعب في حفظ السماوات والأرض لأنّ كلّ ذلك هيّن على الله، فكما أنّ خلق الذرّة والأجسام الصغيرة هيّن على الله، كذلك خلق السماوات السّبع والكرسيّ والعرش، وحِفْظُها من أن تقع على الأرض هيّن على الله سبحانه وتعالى فلا يصيبه تَعَبٌ من ذلك، وهذا تكذيب لليهود الذين قالوا: إنّ الله تَعِبَ بعد خلق السماوات والأرض واستلقى ليستريح يوم السبت والعياذ باللّه تعالى من الكفر والضّلال. ولقد ردّ الله تعالى عليهم بقوله: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ سورة ق، أي لم يلحق الله تعالى تَعَب من خلق السماوات والأرض، لأنّ من يعمل بالجوارح والآلات هو الذي من شأنه أن يتعب، المخلوق يتعب لأنّه يباشر العمل بالجوارح، أما الله فلا يوصف بالتعب كما يقول اليهود لعنهم الله. وما أشبه مقالتهم هذه بمقالة المشبّهة الذين ينسبون أنفسهم إلى المسلمين زورًا وبهتانًا، القائلين إن الله جسم مستقرّ على العرش، زاعمين أنّ هذه عقيدة السلفِ والسلفُ بريئون من هذا، لأنّ اعتقاد السلف أنّ الله تبارك وتعالى منزّه عن المكان والجهة والحدّ أي الكمية والحجم. وقد ردّ الإمام عليّ رضي الله عنه هذه المقالة بقوله: «إنّ الله خلق العرش إظهارًا لقدرته ولم يتخذه مكانًا لذاته» نقل ذلك عنه الأستاذ أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميميّ البغداديّ المتوفى سنة 426هـ في كتابه «الفَرق بين الفِرق». فهذه الجملة فيها الردّ على اليهود وعلى المجسّمة والمشبّهة الذين قالوا إنّ الله قاعد فوق العرش، وهل يَصْلح لأحد من السّلف والخلف أن يقول ذلك بعد قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11) سورة الشورى، فهذه الآية كافية في تنزيه الله عن مشابهة خَلْقِه وتنزيهه عن المكان وعن صفات المخلوقات.

ومعنى ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) أي الذي يَعْلُو على خلقه بقهره وقدرته ويستحيل اتصافه تعالى بارتفاع المكان، لأنّه تعالى منزّه عن المكان لأنّه خالقه.

والعليّ هو المتعالي عن الصفات التي لا تليق به، ولا يجوز تفسير هذه الآية بعلوّ الجهة أو المكان لأنّ التحيّز في المكان والجهة من صفات الأجسام وليس فيه تعظيم للّه لأنّ الشأن بعلوّ القدر لا بعلوّ المكان. ومما يدلّ على ذلك وجود الملائكة في السماوات ومنهم من هو موجود عند العرش في مكان عالٍ جدًّا ومع ذلك فليسوا أفضل من النّبيّ محمّد ﷺ الذي هو الآن في بطن الأرض. والعظيم: أي عظيم الشّأن والله أعظم من كل عظيم قدرًا لا حجمًا ولا كميّة، سبحانه وتعالى عمّا يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.