هو مبنى قديم، في حي قديم، على طرف من أطراف العاصمة، ما زال يحتفظ بطابعه التراثي، وإن أحاطت به أبنية شاهقة يخال الناظر إليها أنها متكئة على ذلك البناء المهترئ. لكن «ومن دون طول سيرة» ليس موضوعنا الهجمة الحضارية في الأبنية وليس كلامنا عن المباني الأثرية، بل كلامنا عن ساكنيها. إذًا بالعودة إلى مبنانا القديم المؤلف من ثلاث طبقات، سكن هذا المبنى أناس طيبون، تجمّلوا بالأخلاق الحسنة وسرى بينهم حُسْن الجيرة وحُسْن التعامل، مع العلم أنهم كانوا من أجيال متفاوتة ومن خلفيات مختلفة، فالحاج (ولنسمّه سميرًا) الذي يقطن في الطابق الأرضي من المبنى قد تعدى الخامسة والسبعين من عمره، وكان إذا صحّ التعبير، مختار المبنى فهو يضع نرجيلته من الصباح الباكر إلى أذان المغرب أمام المدخل الأساس للمبنى، ويسلم على الداخل والخارج، ويعرف «الشاردة والواردة» في المبنى كما يقال. أما اللذان يقطنان الطبقة الثانية من المبنى (ولنسمّهما عمر وزوجته رقية)، فهما عروسان في مقتبل العمر يعملان معًا لتأمين لقمة العيش بالحلال، والذي يعيش في الطابق الأول من المبنى (ولنسمّه خالدًا) يبلغ من العمر خمسة وثلاثين عامًا مع زوجته وابنه ذي الأعوام الخمسة وابنته ذات الأعوام الأربع. وأخيرًا وليس آخرًا يبقى جارنا الدكتور ولنسمّه (ساميًا)، هو ليس طبيبًا في الحقيقة، لكنه درس مهنة التمريض ولم يكمل دراسته فيها، وهو يعمل الآن في شركة أدوية لذلك أخذ الطابع أنه طبيب.
الناظر إلى هذا المبنى وساكنيه قد يظن للوهلة الأولى أنه المجتمع النموذجي للجيرة الحسنة وحُسن العشرة بين الجيران، وأن ساكنيه يعيشون الحياة النموذجية السعيدة، لكن أهل الأزمنة السابقة قالوا: «البيوت أسرار» ولم يكن كلامهم عبثًا، بل هو منبثق من قصص وخبرات كثيرة، رسخت عبارة «البيوت أسرار» لتصبح واقع حال نعيشه.
فالناظر إلى الحاج سمير يظن أنه مثال الرجل العجوز البسيط الذي يعيش من راتبه التقاعدي، وحياته بسيطة مليئة بالفرح والسرور، لكن من لم يدخل بيت الحاج سمير لم يعرف أنه ومنذ أكثر من عشرين سنة، يراسل ابنه المسافر في بلاد الاغتراب، وفي كل مرة كانت الرسالة ترتجع لعدم صحة عنوان المرسل إليه. نعم، ابن الحاج سمير الوحيد، مفقود في بلاد الاغتراب، وكل يوم يدخل الحاج سمير بيته ويتأمل جبل الرسائل المرتجعة المتكومة على أريكته القديمة وتنزل دمعة لا يمسحها إلا رسالة من ابنه قد لا تصل أبدًا.
أما العروسان الجديدان، رمز السعادة والأمل بحياة متجددة كما يقال، فهما ليسا سعيدين إلى هذه الدرجة، فهما يعملان ليل نهار لتأمين لقمة العيش بالحلال، وبسبب هذا الإرهاق أصيبت رقية بمرض منعها من الحمل، وهما يعملان الآن بجهد لتأمين ثمن العلاج لهذا المرض، لدرجة نسيان أنهما عروسان جديدان. لكن عيون بعض الناس لا ترحم، فكم وكم من الناس ينظرون إليهما نظرة حسد وحقد، كونهما يظهران الفرحة لجميع من حولهما ولا يشعران أحدًا بمشكلاتهما.
وبالانتقال إلى هذا الشاب خالد الذي يعمل موظفًا في إحدى الشركات الكبرى ويتقاضى المبلغ المرقوم، وبالإضافة إلى عمله يعطي دروسًا خصوصية بعد الظهر ويتقاضى أيضًا «الشىء الفلاني» كما يتهامس أهل الحي بينهم كل ليلة في المقهى، «يعمل في وظيفتين، وليس عنده سوى ولدين، أين يذهب بالمال كله؟»، «يسكن في العاصمة وعنده ولدان وزوجته لا تعمل، من المؤكد أن راتبه يتخطى الخمسة آلاف دولار». ربما كلامهم صحيح، لكنهم لم يدروا أن ابنه الصغير (ولنسمّه محمدًا)، مصاب بمرض في نخاعه العظمي يستدعي عملية تكلفه حوالي مائة ألف دولار، وأن خالدًا لا يهمه في الوقت الحالي سوى إجراء عملية لابنه لدرجة أنه لم يدخل اللحم إلى بيته منذ أكثر من سنة.
أما طبيب المبنى، المتأنق دائمًا، الذي يعرف عن بُعد ميل من رائحة عطره، ومن هدير سيارته الفخمة، «أكيد شاب أعزب «لا وراه ولا قدامه» يصرف ويبذخ على حاله، ألا يريد الزواج؟ جيل آخر زمن» لكن نساء الحي، لم يدرين عندما قُلْنَ ما قُلْنَ عنه أنه مصاب بالسكري بدرجات عالية، ولم يشأ أن يرتبط بامرأة حتى لا يكون عبئًا عليها.
سبحان الله، حقًّا البيوت أسرار، ولا يسلم الإنسان في الغالب من «قلقلة» بعض الناس المحيطين به. وهنا يحضرني الحادثة التي جرت بين حاتم الأصم وأحمد بن حنبل رضي الله عنهما، عندما سأل سيّدنا أحمد سيّدنا حاتمًا الأصم فقال له: أخبرني يا حاتمُ فيم أتخلص من الناس؟، فقال حاتم: في ثلاث خصال، قال: وما هي؟، قال: أن تعطيهم مالك ولا تأخذ منهم، وتقضي حقوقهم ولا تستقضي منهم حقًّا، وتحمل مكروههم ولا تكره أحدًا منهم على شىء، فأطرق الإمام أحمد ثم رفع رأسه وقال: يا حاتم إنها لشديدة، فقال حاتم: وليتك تَسْلَم، وليتك تَسْلَم، وليتك تَسْلَم…