ها هي وفود الحجيج تشدّ الرحال تستعدّ لزيارة بيت الله الحرام وأداء النسك، ما أحيلاه من منظر وما أجمله من مشهد، كأنّهم عقود لؤلؤ تناثرت قاصدةً تلك البقاع الطاهرة بخشوعٍ وسكينة وأمانٍ وطمأنينة، حيث تصفو الروح ويرقّ الفؤاد. كيف لا والحجّ فيه حِكَم عظيمة ومزايا جليلة وفوائد جمّة، تذكّرنا أعماله بمواقف يوم القيامة. يجتمع الحجاج كلهم كبيرهم وصغيرهم غنيّهم وفقيرهم مع اختلاف أحوالهم ولغاتهم وبلادهم متجرّدين من مباهج الدنيا الفانية، ولسان حالهم يهتف ويردّد «لبّيك اللّهمّ لبّيك». 

فالحجّ هو أحد أعظم أمور الإسلام وهو فرض على المستطيع مرة واحدة في العمر، ومزيّته أنّه يكفّر الكبائر والصغائر، فقد قال رسول الله ﷺ: «من حجَّ هذا البيت فلم يرفُثْ ولم يفسُقْ رجع كيوم ولدته أمُّه» رواه البخاري. فكيف تؤدى هذه الفريضة العظيمة؟

من المهمّ أوّلًا بيان أنّ للحجّ أركانًا وواجباتٍ وسننًا ومحرّمات، والفرق بين الركن والواجب هنا أن الركن في باب الحجّ لا يصحّ الحجّ من دونه أمّا الواجب فلا يفسد الحجّ بتركه لكن يلزم المحرِمَ دمٌ إن تركه أي يجب عليه ذبحٌ.

فالركن الأول من أركان الحج الإحرام وهو نية الدخول في عمل الحج، ويبدأ وقته من أول شوال إلى فجر عيد الأضحى وهذا يسمّى بالميقات الزماني. ويسنّ لمريد النسك قبل أن يُحرم أن يغتسل ثمّ يتطيّب في البدن وهو سنّة للرجال والنساء، ويصلّي ركعتين للإحرام ثمّ يستقبل القبلة ويُحرم فيقول في نفسه مثلًا: «دخلتُ في عمل الحجّ» إن أراد الحج وحده ويقول بلسانه بصوت خفيف: «لبّيك اللّهمّ بحجّ» ثمّ بعد ذلك يسنّ للرجال أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية والإكثار منها «لبّيك اللّهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إنّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك» أما النساء فلا يسنّ لهنّ رفع الصوت بالتلبية.

ويجب أن يكون الإحرام من الميقات المكاني أو قبله. والمواقيت هي أماكن محددة للإحرام منها أو قبل مجاوزتها، فميقات من لم يكن بمكة خمسة أماكن منها المكان المعروف اليوم بـ (أبيار علي) لمن يمرّ بالمدينة المنوّرة، ويصحّ أن يُحرم من داره أي قبل أن يصل إلى الميقات. ويكون الرجل حين إحرامه متجرّدًا من ثيابه التي تحيط بالبدن بالخياطة ويلبس ثياب الإحرام ثمّ يتوجّه إلى مكة ويقصد المسجد الحرام، فإذا رأى الكعبة سنّ له أن يقول: «اللّهمّ زد هذا البيت تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا ومهابةً وزد مَن شرّفه وعظّمه ممّن حجّه أو اعتمره تشريفًا وتكريمًا وتعظيمًا وبِرًّا».

ثمّ يطوف طواف القدوم ولسان حاله يقول «مهما دُرتُ وحيثما كنتُ أثبتُ على طاعة الله» وهو سبع طوفات فلو شكّ في العدد قبل الفراغ من الطواف أخذ بالأقل. ويشترط لصحة الطواف ستر العورة، والطهارة عن الحدثين الأكبر والأصغر وعن النجاسة، وأن يجعل الكعبة عن يساره مارًّا تلقاء وجهه، ويبدأ بالحجر الأسود. ويكون الطواف بالكعبة خارجها وخارج الشاذَروان وحِجْر إسماعيل بجميع بدنه. والشاذَروان هو جزء من أساس الكعبة مرتفع قدر ذراع تقريبًا فهو من الكعبة لذلك لا يصحّ الطواف حال كون جزء من البدن محاذيًا له.

ويسنّ بعد الطواف أن يصلّي ركعتين ثمّ إن شاء يسعى بين الصفا والمروة أو يترك السعي إلى ما بعد طواف الركن لأنّ السعي من شرطه أن يكون بعد طواف، والسعي ركن لا يصح الحج من دونه وسيأتي الكلام عن شروطه.

ثمّ يذهب إلى مِنى ويسنّ أن يبيت فيها ليلة التاسع من ذي الحجة.

وفي يوم التاسع من ذي الحجة بدخول وقت الظهر يدخل وقت الوقوف بعرفة الذي هو من أعظم أركان الحج، فقد قال رسول الله ﷺ: «الحجّ عرفة» رواه الترمذي وغيره. أي إنّ من أهمّ أركان الحج الوقوف بعرفة لأنّ وقت الوقوف قصير ومن لا يدركه يفوته الحج. فيقف المُحرم في أيّ جزء من أرض عرفة ولو لحظة ويبقى وقته إلى فجر العيد. ويسنّ له أن يجمع بين الليل والنهار في الوقوف ويكثر من التهليل والتسبيح والتكبير والصلاة والسلام على النبيّ ﷺ والاستغفار وتلاوة القرءان والدعاء. فقد روى البيهقي أنّ رسول الله ﷺ قال: «أفضل الدعاء دعاءُ يوم عرفة وأفضل ما قلتُ أنا والنّبيّون من قبلي لا إلـٰه إلا الله وحده لا شريك له».

فإذا غربت الشمس يتوجه إلى مزدلفة ويبيت بها ولو لحظة من النصف الثاني من الليل. ويسنّ أن يأخذ منها الحصى لرمي جمرة العقبة يوم العيد وهي أقرب الجمرات إلى مكة. فإذا وصل إلى مِنى رمى جمرة العقبة بسبع حصيات واحدة فواحدة. ويشترط كون المرميّ حجرًا، وأن يسمّى رميًا فلا يكفي الوضع، وأن يقصد المرمى، وأن لا ينوي بهذا الرمي غيره، وأن يكون الرمي باليد إن كان قادرًا على الرمي بها. وهذه هي شروط أيضًا لصحة رمي الجمار الثلاثة أيام التشريق. ويسنّ أن يكبّر مع كلّ حصاة.

ثمّ بعد الرّمي إن كان معه هديٌ يذبحه (والذبح ليس من الأركان) ويحلق أو يقصّر وهو من الأركان. والأفضل للرجل الحلق ولغيره التقصير، والأفضل له أن يحلق جميع رأسه ويكبّر عند الحلق، وإن لم يكن له شعر استحبّ له أن يُمرّ الموسى على رأسه، والمرأة تقصّر ولا تحلق، وأقلّه إزالة ثلاث شعرات.

ثمّ يعود إلى مكة ويسنّ أن يغتسل، ويطوف طواف الإفاضة وهو من الأركان. ويقوم بما قام به في طواف القدوم من شرائط وسنن وأدعية. ويبدأ وقته ووقت الحلق أو التقصير ورمي جمرة العقبة بانتصاف ليلة العيد لكن يسنّ ترتيبها على الوجه الذي ذكرناه.

فإذا طاف طواف الإفاضة يسعى بعده إن لم يكن قد سعى بعد طواف القدوم. والسعي بين الصفا والمروة ركن فيسعى سبع مرات يبدأ بالصفا ويختم بالمروة، ويحسب ذهابه من الصفا إلى المروة مرة وعوده من المروة إلى الصفا مرة. ولا يشترط أن يكون متوضّئًا. ويسنّ أن يقول في أثناء السعي: «ربّ اغفر وارحم وتجاوز عمّا تعلم إنّك أنت الأعزّ الأكرم».

ويحلّ بفعل شيئين من رمي جمرة العقبة والحلق أو التقصير والطواف المتبوع بسعي ما كان قد حرُم عليه بالإحرام غير عقد النكاح والوطء ومقدّماته ويسمّى التحلّل الأول، ويحلّ بفعل الباقي من الثلاثة ويسمّى التحلّل الثاني.

ثمّ يقصد مِنى في الحادي عشر من ذي الحجّة فيبيت بها معظم الليل ويرمي الجمرات الثلاث بسبع حصيات لكل جمرة بعد دخول وقت الظهر، ويبدأ بالتي هي أقرب إلى مسجد الخَيف ثم الوسطى ثم جمرة العقبة ويكبّر مع كلّ رمية، ثمّ يفعل كذلك يوم الثاني عشر. فإذا نفر إلى مكة يوم الثاني عشر من ذي الحجّة بعد الرّمي وقبل غروب الشمس جاز وسقط عنه مبيت ليلة الثالث عشر ورمي جماره. والرمي والمبيت في مِنى كلاهما من الواجبات فإن تركهما لزمه ذبح، وعلى قول في المذهب الشافعي بسنيّة المبيت لا إثم على من ترك المبيت ولا دم. ويبقى أن يطوف طواف الوداع قبل خروجه من مكة.

ويتلخّص مما ذكرنا أنّ أركان الحجّ التي لا يصحّ من دونها ستة: الإحرام، والوقوف بعرفة، وطواف الإفاضة، والسعي بين الصفا والمروة، والحلق أو التقصير، والترتيب في معظم الأركان، فيجب تقديم الإحرام على الكل وتأخير الطواف والحلق أو التقصير عن الوقوف بعرفة.

محرّمات الإحرام

ليعلم أنّ من أحرم بالحجّ أو العمرة حرمت عليه أشياء منها:

-لبس ما يحيط بالبدن بخياطة كالقميص للرجل وتغطية رأسه، وبالنسبة للمرأة يحرم عليها تغطية وجهها ولبس قفاز.

-استعمال الطيب في البدن أو الثوب.

-دهن الرأس أو شعر اللحية بالزيت ونحوه.

-إزالة الشعر بحلق أو نتف مثلًا من الرأس والبدن.

-تقليم الأظفار، لكن إذا انكسر بعض ظفره وكان يتأذى بباقيه فلا يحرم إزالته.

-صيد الحيوان المأكول البرّي الوحشي، أما الحيوان المؤذي بطبعه كالعقرب فيجوز قتله.

-عقد النكاح لنفسه أو لغيره ولا ينعقد.

-الجماع ومقدّماته، ويبطل الحجّ بالجماع إذا حصل قبل التحلل الأول.

والله تعالى أعلم وأحكم.