الحمد لله الذي هدانا لدينه وجعلنا من أهله وفضّلنا بما علّمنا من تنزيله، وشرّفنا بمحمد نبيه ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وأنزل عليه كتابه الذي لم يجعل له عوجًا وجعله قيمًا لينذر بأسًا شديدًا من لدنه ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)﴾ بيّن فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام والمقدم والمؤخر والمطلق والمقيد والأقسام والأمثال والمجمل والمفصل والخاص والعام والناسخ والمنسوخ ﴿ لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)﴾ أما بعد فقد قال الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآء مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ ءاتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا (99)﴾ سورة طه.

فقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمَّته بعض ما حصل في الأمم الماضية، وأخبار من قبلنا من القبائل وأخبار الأنبياء قبل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، كأخبار بني إسرائيل، وإسرائيل هو سيدنا يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام وكثير من الأنبياء كانوا من بني إسرائيل كسيدنا سليمان.

نسبه الشريف

هو أبو الربيع سليمان نبي الله بن نبي الله داود بن إيشا بن عويد بن عابر ابن سلمون بن نحشون بن عمينا داب بن إرم بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السلام.

مُلك سليمان وسلطانه العظيم

قد بعث الله تعالى سيدنا سليمان عليه السلام بالإسلام كسائر الأنبياء وآتاه النبوة والملك، فكان ملكه واسعًا وسلطانه عظيمًا. وقد أنعم الله عليه بنعم كثيرة كريمة، منها تسخير الجن والشياطين بحيث يطيعونه ويُنَفِّذون أوامره، ومنها فهمه منطق الطير، وجعل الريح تأخذه إلى حيث شاء بإذن الله.

قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَىْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)﴾ سورة النمل.

إن الله تعالى أخبرنا أنه آتى داود وسليمان طائفة من العلم أو علمًا سنيًّا غزيرًا كما قال الإمام النسفي، والمراد علم الدين والحكم. وورث سليمان داود أي ورث منه النبوة دون سائر بنيه -وكانوا تسعة عشر- أي كان نبيًا مثل أبيه وإلا فالنبوة لا تورث كما يورث المال.

علمه منطق الطير

روي عن جعفر بن محمد عن أبيه “أُعطي سليمان ملك مشارق الأرض ومغاربها”، وقول سيدنا سليمان: “يا أيها الناس عُلِّمنا منطق الطير” كان تحدُّثًا بنعمة الله تعالى واعترافًا بمكانتها ودعاء للناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير، فكان سليمان عليه السلام يفهم منها كما يفهم بعضها من بعض، فقد روي أنه صاحت فَاخِتة وهي نوع من الطير فأخبر أنها تقول: “ليت ذا الخلق لم يخلقوا” وصاح طاووس فقال: “يقول: كما تدين تدان” وصاح هدهد فقال: “يقول: استغفروا الله يا مذنبون”، وصاح خُطَّاف وهو عصفور لونه أسود فقال: “يقول: قدّموا خيرًا تجدوه”، وصاحت رَخَمَة فقال: “تقول: سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه”، والرَخَمَة طائر أبقع يشبه النسر.

سيدنا سليمان والنملة

كان سيدنا سليمان يعرف منطق غير الطيور، كما أخبر تعالى في القرءان الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)ﱪ سورة النمل، فالله سبحانه وتعالى يخبرنا بقوله: ﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ﴾ أي ساروا حتى إذا بلغوا وادي النمل -وهو واد بالشام كثير النمل- قالت نملة منذرةً: يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم، وقد قالت النملة ذلك على وجه العذر أي لو عرفوا مكانهم لن يحطموهم، قالت ذلك واصفة سليمان وجنوده بالعدل، فسمع سليمان قولها من ثلاثة أميال فتبسم ضاحكًا من قولها، متعجبًا من حذرها واهتدائها لمصالحها ونصيحتها للنمل أو فرحًا لظهور عدله، وقد كان أكثر ضحك الأنبياء التبسم.

﴿وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)﴾ المعنى كُفَّني عن الأشياء التي لا خير فيها إلا عن شكر نعمتك التي أنعمت عليّ من النبوة والملك والعلم، وعلى والديَّ لأن الإنعام على الوالدَيْن إنعام على الولد، وأن أعمل صالحًا ترضاه في بقية عمري وأدخلني الجنة برحمتك لا بصالح عملي إذ لا يدخل الجنة أحد إلا برحمة الله كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم: “قاربوا وسدّدُوا واعلَمُوا أنَّه لن ينجوَ منكم أحدٌ بعملِهِ” قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: “ولا أنا إلا أن يتغمَّدَنيَ الله برحمَةٍ منهُ وفضل“.

وروي أن النملة أحسَّت بصوت الجنود ولا تعلم أنهم في الهواء حيث كانت الريح تحملهم، فأمر سليمان الريح فوقفت لئلا يذعروا حتى دخلوا مساكنهم.

ربنا اغفر لنا وارحمنا واهدنا وعافنا واعف عنا، يا أرحم الراحمين.

 والحمد لله رب العالمين. █