أهم الأمور عند الله هو معرفة الله ورسوله
الحمد لله رب العالمين، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، وصلوات الله البر الرحيم والملائكة المقربين، على سيدنا محمد أشرف المرسلين، وعلى آله وأصحابه وسائر الأنبياء والصالحين.
أما بعد فإن علم التوحيد هو أفضل العلوم وأعلاها وأشرفها، وشرف هذا العلم على غيره من العلوم لكونه مُتعلِّقًا بأشرف المعلومات التي هي أُصول الدين أي معرفة الله ورسولِهِ. قال الله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ﴾ سورة محمد/19. وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَءامِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ الآية سورة الحديد/28.
وقال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه في كتابه الفقه الأبسط: “اعلم إن الفقه في الدين أفضل من الفقه في الأحكام والفقهُ معرفة النفس ما لها وما عليها”. وقال أيضًا: “أصل التوحيد وما يصِحُّ الاعتقاد عليه وما يتعلق منها بالاعتقاديات هو الفقه الأكبرُ”.
أهم الأمور عند الله وأعلاها وأفضلها هو معرفة الله ورسوله كما ينبغي، ليس مجرد أن يقول القائل: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا
رسول الله بلسانه، لا يكفي مجرد الاعتراف باللسان، بل لا بد من المعرفة بالقلب لمعنى لا إله إلا الله محمد
رسول الله. فمن عرف معنى لا إله إلا الله ومعنى محمد رسول الله كما يجب، واعتقد
بقلبه ولم يخالجْه شك ونطق
بالشهادتين، هذا مضمونٌ له النجاة من الخلود الأبدي في جهنم، مهما كان عنده ذنوب ومات وهو غافل لا بد أن يدخل الجنة لأجل إيمانه، مهما تعذّب في النار لا بد أن يدخل الجنة، قال الله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيرًا (47)﴾ سورة الأحزاب.
وروى الإمام مسلم من حديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال: أتيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو نائِمٌ عليه ثوب أبيض، ثم أتيته فإذا هو نائِم، ثمَّ أتيتُهُ وقد استيقظ. فجلست إليه فقال: “ما من عبدٍ قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة”، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: “وإن زنى وإن سرق”، قلتُ: وإن زنى وإن سرق؟ قال: “وإن زنى وإن سرق” ثلاثًا ثم قال في الرابعة: “على رغم أنف أبي ذر”. ففي هذا الحديث الشريف أن من مات على الإيمان لا بُدَّ من دخوله الجنَّة ولو مات وهو غير تائبٍ من الكبائر، وهو بمعنى حديث ابن حبان مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: “من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنَّةَ يومًا من الدَّهر وإن أصابه قبل ذلك ما أصابه”.
معنى لا إله إلا الله
معنى “لا إله إلا الله” لا معبود بحق إلا الله أي لا أحد يستحق أن يُعبَد إلا الله، لا أحد يستحق نهاية التعظيم والخضوع والتذلل إلا الله، لا يجوز أن يُعظم أحد كما يُعظم الله، لا الملائكة ولا الأنبياء ولا الأولياء يستحقون أن يُعظّموا كما يعظم الله، لكنْ يُعظّمون إلى حدٍ يليق بهم ليس إلى حد تعظيم الله. وهذا أحد القولين في معنى الشهادة الأولى، والقول الثاني هو ما قاله الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى وذكره الإمام البيهقي في كتاب الاعتقاد ونُقل عن أبي منصور الماتريدي أيضًا، فذكروا أن معنى الشهادة الأولى هو الاعتراف باللسان والإذعان بالقلب أن لا خالق لشىء من الأشياء مبرزًا له من العدم إلى الوجود حجمًا كان أو صفةً إلا الله تبارك وتعالى وهذا يقتضي أن لا يستحق أحدٌ العبادة إلا هو.
معنى العبادة
قال الإمام الأزهري الذي هو أحد كبار اللغويين في كتاب تهذيب اللغة: “العبادة في اللغة الطاعة مع الخضوع”. وقال الحافظ اللغوي تقي الدين السبكي: “العبادة في اللغة أقصى غاية الخشوع والخضوع”. وقال بعضٌ: “نهاية التذلل” كما يفهم ذلك من كلام شارح القاموس مرتضى الزبيدي خاتمة اللغويين.
وهذا هو معنى العبادة المرادة بقوله تعالى: ﴿لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)﴾ سورة الأنبياء/25، وبقوله تعالى ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ سورة الفاتحة/5 أي نطيع الله الطاعة التي يُخضَع معها، وهذه هي العبادة المختصة لله تعالى التي من صرفها لغيره صار مشركًا، وليس معناها مجرد نداء حي أو ميت ولا مجرد الاستعانة أو الاستغاثة بغير الله ولا مجرد قصد قبر ولي للتبرك.
وكذلك ليس مجرد التذلل عبادةً لغير الله وإلا لكفر كل من يتذلل للملوك والعظماء. وقد ثبت أن معاذ بن جبلٍ لما قدم من الشام سجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم “ما هذا” فقال يا رسول الله إني رأيت أهل الشام يسجدون لبطارقتهم وأساقفتهم وأنت أولى بذلك، فقال “لا تفعل، لو كنت آمرُ أحدًا أن يسجد لأحدٍ لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها”، رواه ابن حبان وابن ماجه وغيرهما ولم يقل له رسول الله صلى الله عليه وسلم كفرت، ولا قال له أشركت مع أن سجوده للنبي مظهر كبير من مظاهر التذلل.
فاعلم أنه لا دليل حقيقي يدل على عدم جواز التوسل بالأنبياء والأولياء في حال غيبتهم أو بعد وفاتهم بدعوى أن ذلك عبادة لغير الله لأنه ليس عبادةً لغير الله مجرد نداء حي أو ميتٍ ولا مجرد الاستعانة أو الاستغاثة بغير الله ولا مجرد قصد قبر ولي للتبرك ولا مجرد طلب ما لم تجر به العادة بين الناس أي ليس ذلك شركًا لأنه لا ينطبق عليه تعريف العبادة عند اللغويين لأن العبادة عندهم الطاعة مع الخضوع.
فهؤلاء الذين يُكفِّرون المستغثين بالأولياء والأنبياء ليتعلموا معنى العبادة في لغة العرب قبل إطلاق ألسنتهم بالتكفير فإنهم جهلوا معنى العبادة وخالفوا ما عليه المسلمون، لأن المسلمين سلفًا وخلفًا لم يزالوا يزورون قبر النبي للتبرك وليس معنى الزيارة للتبرك أن الرسول يخلق لهم البركة بل المعنى أنهم يرجون أن يخلق الله لهم البركة بزيارتهم لقبره.
الله تعالى لا يُشبهنا
الله تعالى ذاتٌ متصف بصفات الكمال، موجود لا يشبه الموجودات، لا يشبه شيئًا من العوالم التي رأيناها والتي لم نرها، لا يشبه الإنسان، ليس شيئًا له نصف أعلى ونصف أسفل كالإنسان، ولا كالجمادات كالشمس والقمر والكواكب، ولا هو كالهواء والضوء والظلام، لا يشبه هذا كله.
كل ما يُتصوّر بالبال فالله بخلاف ذلك، “مهما تصورت ببالك فالله بخلاف ذلك” هذا الكلام قاله الإمام ذو النون المصري الذي هو من أكابر الأولياء الذين كانت ألسنتهم تفيض بجواهر العلوم، هذا العالم الجليل قال هذا الكلام، وهو أخذ هذا الكلام من القرءان، لأن الله ذَكَرَ في القرءان أنه ليس كمثله شىء قال تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ سورة الشورى/11، الله تعالى قال إنه لا شىء مثله، لا الإنسان يشبهه، ولا النيّرات كالشمس والقمر والنجوم، ولا الماء ولا الهواء ولا الريح ولا الروح ولا غير ذلك من اللطائف.
الروح مخلوقة، بعض الجهال يقولون: الروح جزء من الله! على زعمهم الله تعالى حالٌّ فينا، لأن الروح فينا وهذه الروح على زعمهم جزء من الله، هؤلاء ما عرفوا الله، الله تعالى لا يحل في شىءٍ ولا يحل فيه شىء، والله تبارك وتعالى لا يَمَس ولا يُمَس، خلق العالم من دون مباشرةٍ ولا آلةٍ، ليس مثلنا، نحن نبني البناء بحركات وأدوات وآلات، وهو ليس كذلك، خلقنا من دون مباشرة من دون حركات ومزاولات، بمشيئته الأزلية وخلقه حصل كل شىء فدخل في الوجود.
في الأزل لم يكن إلا الله
الله تعالى كان قبل كل شىء كان ولا مكان ولا زمان ولا شىء من المخلوقات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كان الله ولم يكن شىء غيره وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شىء”، “كان” الأولى تفيد الأزلية أي أن الله وحده كان في الأزل ولم يكن معه ماء ولا هواء ولا عرش ولا بشر ولا جن ولا ملائكة ولا شىء من هذه المخلوقات. ثم خلق الله الماء وخلق العرش وجعله فوق الماء فـ”كان” الثانية تفيد الحدوث أي أن الله أوجد الماء ثم العرش، والماء أول المخلوقات، والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: “إن الله لم يخلق شيئًا مما خلق قبل الماء” هذا الحديث أورده الحافظ ابن حجر في شرح البخاري في كتاب بدء الخلق، وروى ابن حبان في صحيحه حديثًا آخر وهو: “إن الله تعالى خلق كل شىء من الماء”. وقوله صلى الله عليه وسلم: “وكتب في الذكر كل شىء” أي أن الله خلق القلم الأعلى وخلق اللوح المحفوظ وأمر القلم بأن يجري على اللوح ويكتب مقادير الخلائق أي أن يكتب على اللوح المحفوظ ما كان وما يكون إلى يوم القيامة. والقلم واللوح جِرمان عظيمان عُلْويّان ليسا كأقلامنا وألواحنا. فهذه المخلوقات الأربعة هي أول المخلوقات التي ورد ذكرها في هذا الحديث. وهناك شيئان مخلوقان لم يرد ذكرها في الحديث وهما المكان والزمان لأن بوجود الماء وجد المكان والزمان لأن الحجم لا بد أن يكون في مكان فبوجود الماء وجد المكان ووجد الزمن.
والله تعالى أعلم وأحكم. █