هو أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي، ويقال: الفرهودي الأزدي. والفراهيدي نسبة إلى فراهيد، وهي بطن من الأزد. والفرهود: ولد الأسد بلغة أزد شنوءة، وقيل: إن الفراهيد صغار الغنم.

مولده وبلده

كان مولده عام مائة من الهجرة في زمن الخليفة الأموي العادل عمر بن عبد العزيز. وقال بعضهم: إنه ولد بمدينة عمان على شاطئ الخليج العربي، وعاش في البصرة.

وصفه وأخلاقه

كان الخليل بن أحمد الفراهيدي رحمه الله رجلاً صالحًا عاقلاً، وقورًا وذكيًا، وأكثر ما كان من صفاته بعد قوَّته في العلم وانقطاعه له ما كان من زهده وورعه، إذ كان متقللًا من الدنيا جدًا، متقشفًا متعبدًا، صبورًا على خشونة العيش وضيقه.

وليس أدلّ على ذلك مما حكاه عنه تلميذه النضر بن شميل حيث قال: أقام الخليل في خصٍ من أخصاص البصرة، لا يقدر على فلسين، وأصحابه يكسبون بعلمه الأموال.

ومن حكايات زهده أن سليمان بن عليٍ والي البصرة وجّه إليه يلتمس منه تأديب أولاده كما كانت عادتهم قديمًا نظير راتب كان يجريه عليه، فأخرج الخليل إلى رسول سليمان خبزًا يابسًا، وقال: ما عندي غيره، وما دمت أجده فلا حاجة لي في سليمان. فقال الرسول: فماذا أبلغه عنك؟ فأنشأ يقول:

أبـــلـــغ ســـلـــيـــمــــان أني عنـه في ســعـةٍ

 

وفي غنًى غير أني لسـت ذا مـال

ســـــــخـــي بنفـــــسي أني لا أرى أحـــــدًا

 

يــمــوت هزلاً ولا يبقي على حـال

والفقر في النفس لا في المال تعرفه

 

ومثل ذاك الغنى في النفس لا المـال

فالرزق عن قدرٍ لا العجز ينقـــصــه

 

ولا يــــزيــــــدك فـــــــيــــــه حـــــول مــــحـــتـــــال

فقطع عنه سليمان الراتب، فقال الخليل:

إن الذي شق فمي ضامـــــن

 

لـــلــــرزق حـــتـــى يــتــوفـاني

حـرمــتــنـي خـيـرًا قـلـيـلًا فـمـا

 

زادك في مالك حرمـاني

فبلغت سليمان، فأقامته وأقعدته، وكتب إلى الخليل يعتذر إليه، وأضعف جائزته.

وفوق زهده وورعه، وتقواه وعلمه، فقد كان الخليل رجلاً ظريفًا متواضعًا حسن الخلق، ومما ذكر في ذلك أنه اشتغل عليه رجل في العروض وكان بعيد الفهم، فأقام مدةً ولم يعلق على خاطره شىء منه، قال الخليل: فقلت له يومًا: كيف تقطع هذا البيت؟

إذا لم تستطع شيئًا فَدَعْـهُ             

 

وجاوِزْهُ إلى ما تستطيـعُ

قال الخليل: “فشرع معي في تقطيعه على قدر معرفته، ثم إنه نهض من عندي فلم يعد إلي، وكأنه فهم ما أشرت إليه”. وهنا يتجلى أدب الخليل وحسن خلقه مع تلامذته، وكيف كان يستعمل منهجًا تربويًا فريدًا في التعليم.

ومن أفضل ما عُلم عن أدب الخليل وتواضعه ما حكاه الفضل بن محمد اليزيدي فيقول: قدم الخليل بن أحمد علي وأنا على طنفسةٍ، فأوسعت له عليها، فأبى إلا القعود معي عليها، ثم قال: مهلًا، إن الموضع الضيق يتسع بالمتحابين، وإن الواسع من الأرض ليضيق بالمتباغضين.

شيوخه

كغيره من أقرانه وعلماء عصره، فقد أخذ الخليل وتتلمذ على أكثر من شيخ وأستاذ، وكان منهم أيوب السختياني البصري، وقد فقه اللغة عليه، وأيضًا عاصم الأحول بن النضر البصري والعوام بن حوشب وعثمان بن حاضر الأزدي وغيرهم.

تلامذته

كان تلاميذه -رحمه الله- من الكثرة والنجابة بمكان، وكان أبرزهم سيبويه النحوي البصري حجة العربية وعبد الملك بن قريب الأصمعي وحماد ابن يزيد وأيوب بن المتوكل البصري القارئ وغيرهم الكثير.

وكان من أكبر أسباب شهرة الخليل ابن أحمد تلميذه سيبويه، ففي مؤلفه الشهير “الكتاب” كانت عامة الحكايات فيه عن الخليل، وكلما قال سيبويه في كتابه: “وسألته” من غير أن يذكر قائله، فإنما يعني بذلك الخليل.

مؤلفاته

إن من أهم ما أذاع شهرة الخليل في الآفاق هو كتابه ومعجمه الفريد من نوعه في مصنفات اللغة العربية: “كتاب العين”، ولم يكن “العين” هو مصنفه الوحيد، وإنما ذكرت كتب المراجع أن له أيضًا: كتاب “فائت العين” وكتاب “العروض” وكتاب “الشواهد” وكتاب “النقط والشكل” وغيرها الكثير.

آراء العلماء فيه

إحقاقًا للحق وامتنانًا بالفضل وعرفانًا بالسبق نذكر أنه قد أثنى كثير من علماء المسلمين على الخليل بن أحمد رحمه الله، وأنزلوه المكانة اللائقة به، حتى قال عنه حمزة بن الحسن الأصبهاني في كتاب “التنبيه على حدوث التصحيف”: “وبعد فإن دولة الإسلام لم تخرج أبدع للعلوم التي لم تكن لها أصول عند علماء العرب من الخليل”. ويروى عن تلميذه النضر بن شميلٍ أنه قال: “كنا نميل بين ابن عونٍ والخليل بن أحمد أيهما نقدم في الزهد والعبادة، فلا ندري أيهما نقدم؟!”       

وقال عنه ابن حبان في كتاب الثقات: “كان -أي الخليل- من خيار عباد الله المتقشفين في العبادة”.

وفاته

كما كان الخليل عجيبًا في حياته، متفردًا، كانت وفاته أيضًا كذلك؛ فقد أراد أن يقرب نوعًا جديدًا من الحساب تمضي به الجارية إلى البائع فلا يمكنه ظلمها، فدخل المسجد وهو يعمل فكره في ذلك، وكان أجله، حيث صدمته سارية وهو غافل عنها بفكره، فانقلب على ظهره، فكانت سبب موته. وقيل: بل كان يقطع بحرًا من العروض قرب نهر فظن رجل أنه ساحر يقرأ السحر على النهر فقتله، وكان ذلك بالبصرة سنة سبعين ومائة من الهجرة على المشهور، ودفن بها رحمه الله رحمة واسعة.█