هناك الكثير ممن يتصنع الحضارة والرقي في التعامل مع الناس من غير أن تكون فعلًا جزءًا من تربيته أو أخلاقه أو تصرفاته. 

بائع الخضار في حيّنا 

بائع الخضار في حيِّنا هو أحد الأمثلة على ما أقول، كذلك جارتي، وزميلتي في العمل سابقًا. 

أما بائع الخضار فهو رجل في العقد الخامس من عمره لا تكاد تسقط من فمه كلمة “على راسي ستنا” أو “حاضر” لزبائنه، فتظن فيه التهذيب والأدب. فإذا أمعنت النظر جيدًا في تصرفاته فهو صاحب المحل الذي يتشاجر مع كل من يركن سيارة أو دراجة على باب محله ويرفع صوته بالإهانات إن لمس عدم التجاوب من الآخرين. ولا يفرق في ذلك بين رجل وامرأة فالكل معرض للإهانة أو السباب عنده، إلا زبائنه فهم مدللون مكرمون.

جارتي في المبنى

أما جارتنا فهي تلك الزوجة الأنيقة التي تلبس أحدث الثياب وتتعطر بأغلى العطور. إن قابلتها في المصعد كلامها عسل وسكر، تحييك عند دخولها بـ “بونجور” أو “يسعد صباحك” وتتشكرك عند خروجها بـ “ميرسي”. تصف نفسها بأنها أم تواكب العصر الحديث مع بعض التحفظات فتبهرك بكلامها عن حسن تربيتها لصبيانها وبناتها.

لكن جارتي لا تعرف أن أصوات صراخها على زوجها وأولادها تزعج صباحي وتقلق نوم أطفالي. أسمعها تصرخ لابنها “يا قليل الفهم” إن كانت في بيتها، وأسمعها تناديه حبيبي “سَمُّوري” في حضورنا. وجارتي لا تعرف أني أعلم أنها التي ترمي أعقاب السجائر على الطريق فيصل بعضها إلى شرفتي ولا تعرف أيضًا أنني رأيتها مرات عدة تغسل قضبان شرفتها بالماء القوي فتتبلل ملابسي التي أنشرها للتجفيف، ولا تعتذر عن ذلك ولا تبالي. 

بنت عيلة!!!

أما زميلتي في عملي، فهذه قصة أخرى. كانت خريجة جامعية حازت على شهادتها من إحدى الدول الأوروبية وهي بالتالي تتقن الفرنسية والإنكليزية إلى جانب العربية مما جذب إليها الكثير من العملاء. تتباهى دومًا أنها “بنت عيلة” وأن العمل يأتي إليها ولا تأتي إليه وأنها منفتحة متحضرة.

وأما عن قصتها فإنه كان يأخذها النوم كل صباح فتأتي متأخرة نصف ساعة أو أكثر بقليل ثم تمشي إلى سجل حضور الموظفين وتوقع على حضورها باكرًا بخلاف الواقع. ثم تجلس لـ”تلون” وجهها بأدوات التبرج وتقلم أظفارها. أما عند الانصراف، فغالبًا ما كانت تغادر باكرًا بحجة أن زوجها تعذر عليه نقل الأولاد من المدرسة إلى البيت. ومع النصح، فقد كانت ترفض الاعتراف بالتقصير في العمل وعدم المصداقية ولعلها كانت تظن أنها “تتذاكى” على صاحب العمل الذي وثق بها على أساس سمعة أسرتها الطيبة وخبرتها المشكوك فيها أصلًا عندي. ولعله غاب عن بال زميلتي أن الله يراها وأنه تعالى مطلع على فعلها فجعلتها هذه الغفلة تكابر وتستمر دون حياء.

ليعلم أن الحضارة والتحضر مفهومها الحقيقي غير ما يتعارف عليه الكثير من الناس فإنها ليست مقتصرة على اللباقة في التعاطي مع الآخرين وحسب بل هي تبدأ أولًا بتهذيب الشخص نفسه من الداخل وتنقيتها من الشوائب فإذا انتهى من ذلك برز إلى ظاهره حسن خلقه وصدق معاملته وصبره على أذى الغير وصدقه مع الآخين وأمانته.  

وهذه الشواهد الثلاثة تظهر أن الأناقة في الأخلاق والتحضر والرقي ليست مجرد دور في مسرحية اجتماعية بل هي انسجام مع النفس والحال والتربية، فالشخصيات الثلاثة التي أوردتها في أسطري هذه ينقصها بالتأكيد فهم المعنى الحقيقي للحضارة الأخلاقية وحسن التعامل مع القريب والبعيد.█