مع ولادة طفلي الأول، ومع دراستي الجامعية المتقدمة في علم التغذية، وبعد أن كان لي باع طويل في المساعدة في تربية أخي وأختي الصغيرين، كنت متأكدة أني لن أكون ضمن الأمهات الجديدات اللواتي لا يعرفن كيف يتصرفن مع أطفالهن أو يؤمنَّ غذاءهم الأسلم. لكن مع مرور الأيام، وازدياد نصائح القريبات الخبيرات، وتوجيهات البعيدات الخبيرات أيضًا، وقراءة العديد من مصادر المعلومات، اتضح لي تباين الآراء بين حضارة وأخرى، والاختلاف الواضح في المدارس الفكرية المعتمدة كمراجع علمية عند هذه الفئة من الناس أو تلك. حينها أدركت أن دور الأم في هذا العصر أصعب مما كان عليه سابقًا من بعض النواحي، وأن علينا مسؤولية كبيرة تجاه من منّ الله علينا بتربيتهم والحرص على مصالحهم. لكن تجربتي تتلخص بالآتي: لنبتعد عن مظاهر “الحضارة” بمفهومها الخطأ في إطعام أطفالنا ولنبذل الجهد في إعداد الطعام الأفضل لهم.
حبوب الإفطار
حبوب الإفطار مثلًا المعروفة بـ “كورن فلاكس” التي بدأ ظهورها من زمن ليس ببعيد، غريبة عن ثقافتنا، أصبحت إحدى أكثر مظاهر “الحضارة” حضورًا على موائد إفطارنا. تنتقيه الأم عن حسن نية بسبب وجود “٢٨ نوعًا من الفيتامينات والمعادن فيه”، ولأنه يساعد الأطفال على تحصيلهم الدراسي، حيث إن هذا ما يظهره لنا الإعلام الاستهلاكي الذي يغفل عن ذكر بعض الأشياء الأخرى التي لا ينتبه لها كثير من الناس. وتحتوي معظم حبوب رقائق الإفطار، خاصة تلك الموجهة للأطفال منها، على كمية كبيرة من السكر المكرر المضاف الذي يساهم في ازدياد وزن الأطفال بإعطائهم الوحدات الحرارية الخالية من القيمة الغذائية. والحبوب الملونة منها تحتوي على ألوان صناعية مضرة، ناهيك عن المواد الحافظة التي تجعلها تبقى صالحة للاستهلاك لوقت أطول. وبعض رقائق الحبوب المستوردة أيضًا قد تحتوي على رقائق لحبوب معدلة جينيًا، والتي لطالما كان موضوع سلامة استهلاكها طرحًا مثيرًا للجدل لم يتم حسمه بعد.
العصائر المعلبة
في حين تسعى كل أم فينا لإعطاء أطفالها الفاكهة والخضار يوميًا، ترجع بي الذاكرة إلى وقت كانت عصارة الفاكهة دائمًا على رف في مطبخ أمي، تعصر لنا الجزر والتفاح وغيرها فنشربها مباشرة ولا نتركها ليوم غد. أما اليوم، فقد أصبحنا نقف على رفوف الأسواق التجارية نشتري لأطفالنا العصائر المعلبة، والتي غالبًا لا يتعدى محتوى الفاكهة فيها الـ50% في أفضل الأنواع، إذ منها ما لا يتعدى الـ5%، والباقي ماء وسكر ومواد حافظة. وإن أكثر الإفادة من الفاكهة تحصل بتناولنا الفاكهة نفسها. وإن أحبَّ أطفالنا العصير فأفضله ما يعصر طازجًا ويستهلك مباشرة. وإن أردنا أن نشتري لأطفالنا العصائر المعلبة، فلنبحث عن تلك التي تحتوي على نسبة مائة بالمائة من العصير والخالية من السكر والألوان والمواد الحافظة. حتى هذه العصائر إن دخل عملية تغليفها أي خلل بسيط أو تضررت حاوياتها خلال نقلها تعفنت وأصبحت غير نافعة للشرب.
البدائل والأشياء المنكهة مسبقًا
في عصر كثر فيه الكلام عن بدائل الأطعمة، كالمحليات البديلة والدهون البديلة والنكهات الاصطناعية والملونات المطابقة للطبيعة، أصبحت أجسامنا مخزنًا لأشياء ما اعتادت أن تدخلها، وفي كثير من الأحيان ليس لجسدنا الوسائل للتعامل مع هذه المواد بطريقة سليمة. في نزاعاتنا مثلًا مع الوزن الزائد، يجدر بنا الذكر أن ما كل ما كان خاليًا من الدهون أصبح طعامًا صحيًا بالضرورة، فحين يخلو طعام من الدهن غالبًا ما يستعاض عنه بشىء آخر، كالسكر ويفوق ضرر استهلاكها استهلاك الطعام بشكله الطبيعي الكلي. هذا ينطبق أيضًا على استهلاك ما يعرف بالمارجرين، أو البديل النباتي للزبدة، الذي يخضع لعمليات كيميائية معقدة ليظهر بهذا الشكل والرائحة مع خصائصه النباتية، فلنأكل الزبدة الجيدة ولكن بكميات معتدلة ونجنب أجسادنا استهلاك ما لا نألفه. الحليب المنكّه بالشوكولاتة والفراولة والموز وما شابه، والألبان التي يدخلها طعم الفاكهة، غالبًا ما تنكّه بمواد غير طبيعية وتتشبّع أيضًا بالسكر المكرر الذي أصبح يدخل في تصنيع أغلب الأشياء التي قد لا تخطر على بالنا. والمحليات والمنكهات الطبيعية شىء يمكننا زيادته على طعامنا باعتدال كزيادة القليل من العسل على الحليب، أو تقطيع الفاكهة الطازجة أو هرسها وتقديمها مع اللبن لمن اعتاد على هذه الأطعمة.
كثيرة هي الأشياء التي ننخدع بكونها من مواكبة الحضارة، حيث يتضح لنا لاحقًا أنها تجربة علمية باءت بالفشل أو تقليد لنمط حياة لا يشبه أنماطنا. ومما لا يخفى على مهتم بالطعام المتوازن الصحي أن النمط الغذائي الشرق أوسطي هو من أكثر الأنماط العالمية توازنًا وتنوعًا، وأن من يتبعه هو أقل عرضة للإصابة بأمراض السمنة والقلب والسكر ونحوه التي قد تنتج عن إفراط الطعام. وهذا شىء متعارف عليه حتى إن كثيرًا من الحضارات الغربية بدأت تعدل أنماط غذائها لتتضمن الأشياء التي تجعل النمط الشرق أوسطي أفضل من غيره. فلماذا ونحن أصحابه نتركه انخداعًا بما يأتي من الغرب ولو لم يكن الأفضل؟ لنرجع إلى موائدنا، ولكن باعتدال، الزبدة والبيض ولحوم أعضاء الحيوانات كالكبد والقلب ونحوه. لنشرب الحليب على طبيعته ونتناول مشتقاته على النحو الذي فعل أسلافنا، لنقلدهم أيضًا باعتدال طعامهم وحياتهم النشيطة والاهتمام بكل ما له علاقة بسلامة غذاء أطفالنا.█