الحمد لله باسط الأرض ورافع السماء جاعل العقول قسمة لمن شاء فخص بها أشياء دون أشياء، والصلاة والسلام على سيد الفطناء وأصدق الأمناء هادي الناس عند اختلاف الأهواء بما آتاه الله من وحي السماء وما ألهمه من الآراء الصائبات والنظرات الثاقبات.

وبعد فإن الإنسان في الدنيا مجرّب مبتلى، ومختبَر ومصاب، وتَعْرِضُ له الأحوال المختلفات ما بين سراء وضراء… وهو بين الولادة والممات يتقلب في ذلك فلا يكاد يستقر له حال ولا يصفو له بال.

والمُوَفَّق عند الحدثان ذاك الذي يعقل فيحسن النظر ويأخذ العبر ويتعلم من تجارب غيره وحوادث زمانه وأوانه… والمرء قوي بإخوانه… وكثير بمن يعضده من أصحابه وأحبابه… والدنيا بشرورها وغرورها أكبر من الفرد يقف في ساح مواجهتها وحيدًا وحوله من جيوش فتنتها ومحافل شهوتها وكتائب غفلتها ما تحتار له العقول وترتعد منه فرائص الفحول… فإذا عرضت لك النائبة فخذ لها أهبتها وأعدّ لها عدتها وقِفْ لها في حصن حصين من التسليم لرب العالمين والصبر على شدتها والتوكل على القوي المتين…

واسترشد لترشد… واستعلم لتعلم… واستشر واختبر… ولا تجرّب بعنقك بل اجعل بناءك لحل العقد من حيث انتهى بناء المجرّبين… وافتح عينيك لترى الآثار وافتح أذنيك لتسمع النصيحة… فمن رفع جدار أمانه على مداميك التجارب استفاد من أعمار العقلاء السابقين وكأن عقود تجربته قد عاشها كلّها… وعقد مشاكلهم قد عرف مداخلها ومخارجها… وحلّها…

وليستشر ما وجد من عقل مرضي ورأي صفيّ، فالمشورة باب من أبواب الفرج ومفتاح من مفاتيح الوصول إلى المأمول…

وقد مدح الله أنصار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ سورة الشورى/38، وأمر الله نبيّه صلى الله عليه وسلم والوحي ينزل بأن يستشير أهل الرأي والحل والعقد من أصحابه بقوله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)﴾ سورة آل عمران، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى يشاور أصحابه وهو من هو… عقلًا وفهمًا ورشادًا وصوابًا وعلمًا ودراية وهداية… فكيف بمن دونه وكل أحد منا دونه…

فالمشورة نافعة للمستشير… تهيئ له الرأي أو تصوّبه أو تهديه إليه… أو تذكّره به… أو تبيّنه له أو يستفيد منه أو يبني عليه… وهي نافعة للمستشار… يعرف بها قدره عند من استشاره وتشركه في الخير وتشحذ ذهنه وتحد فكره وتجلو نظره وتحثه على  البحث عن أكمل الآراء وحسن النصيحة…

وينبغي للمستشير أن يكون مراده الانتفاع بما يسمع والإفادة من كل رأي قبل أن يمضي رأيه ويمضي في عزيمته ولا بد له في ذا من التطاوع والتواضع والإنصاف والاعتراف إذا وقف على الصائب من الآراء والمفيد من النصائح… وهذا لا بد له من خلق حسن، وأدب صريح… وعقل سليم صحيح… وهو دليل على محبته للحق وطلب الوصول إلى الحكمة ونيل كمال المراد أو أقرب ما يستطيع إلى الكمال…

والمستبد بموقفه المعجب برأيه خاسر ملوم ومخذول محروم… وهو وليد التكبر وربيب الغرور لا يرى لمن حوله فضل نظر ولا يعتبر له حسن رأي وأمر هذا إلى هلاك… طال زمان ذلك أم قصر.

والمستشار ينبغي أن يكون من أهل التقى… وأولي النهى يخاف الله… ويعرف حلال الشرع من الحرام ويبتغي الخير ويسعى في الإصلاح آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر… إذا سئل الرأي تبصّر وإذا استشير تدبّر… وإذا دعي إلى النصيحة… اعتبر وتفكّر… فإذا نطق… فالصواب أراد… وجعل كلامه فصلًا في بيان المراد… وإن كان في رأيه شائبة بيّنها… وإن خاف عاقبة… حذّر منها… وبذل في ذلك وسعه… وصرف إلى ذلك جُهده… لا يلقي الكلام جزافًا… ولا يضيّقه إلحافًا… ولا يوسّعه إرجافًا إذا رأى الرأي في باب الخير ظاهرًا بذله… وإن لم يتضح له سكت…

فليس البيان كثرة الكلام ولا الرأي بسفسطة اللسان…

فقد جاء في الأثر الذي رواه الترمذي: “المستشار مؤتَمَن“… والأمين لا يخون… ولا يسكت عن حق ولا ينطق بالباطل… لا يفشي سرًّا ولا يتبجّح ولا يتباهى… ولا يطلب بصواب رأيه من الدنيا منصبًا ولا جاهًا… يقول ليرضي الله… وينصح لوجه الله… ويجهد في أن ينفع عباد الله.

استشر غيرك في أمرك… في شدتك وحزنك… ولا تسمع للأمّارة بالسوء… ولا تطع الهوى… ولو كنت من كنت في حسن نظر وجودة فكر.

ومرآة العبد المؤمن… أخوه المؤمن… والمرآة المجلوة الصافية النقية هي التي تريك محاسنك ومعايبك… فاختر مرآتك من المؤمنين أهل الصفاء والنقاء والتقى والهدى… هم أهل مشورتك وإخوان الصفا وهم الذين يميّزون فيك ما يحبون لك وما يكرهون منك، فإن رأوا خيرًا أمروك بالزيادة منه وإن رأوا منك ما يكرهون لك نهَوْكَ وسدّدوك ونصحوك وأرشدوك…

﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ

فإن التقى يجلو البصائر ويُنَوِّر الأبصار… فقلوبهم بمحبة الخير لك وألسنتهم بالنصيحة لك هي مرآتك التي لا تكتمك الخبر ولا تكذّبك النبأ… فاستعرض بهم أحوالك عند احتياجك للرأي وألق على كواهلهم ثقل همومك ليُخَفِّفوا عنك العبء ويعينوك على الطريق…

وأما من شابت نفسه شوائب الغفلة وعصبت عينيه عصائب الشهوة… فهو في غشاوة وغواية لا ترى نفسك في مرآته ولا يراك… وربما أراد نفعك فأرداك… وظن أنه يرفعك… فرماك. فمِلْ بنفسك عن غرور النفس والانفراد بالرأي والإعجاب به… وانْأَ بها عن استنصاح من لا تأمن عقله ولا دينه… فمن أردى بنفسه إلى مهاوي الهلاك فنفسك عنده أهون ومن استقل من الخير لآخرته… فأمر آخرتك عنده أقلّ… لُذْ بالتقي… وتحصن بالصادق واستنصح الأمين… واستخبر الخبير… واطلب في ذلك كله باب النجاة وليكن أمر آخرتك مقدّم على شأن دنياك فإن وقعت في الاختيار وأشار إلى الدنيا من أشار فاعلم أنه العدو… ومن أشار إلى الآخرة وثوابها وحرّرك من عواقبها وعقابها… ودلّك إلى بحبوحة الجنة وأبوابها… فاعلم أنه مرآتك النقية… وأخوك المحب المؤتمن… والتوفيق من الله… █