الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلّم وبارك على نبيّنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين.
أما بعد فقد جرت عادة المؤلفين في كتب العقيدة من المتأخرين أن يذكروا أن الواجب العيني المفروض على كل مكلف أي البالغ العاقل أن يعرف من صفات الله ثلاث عشرة صفة وأن يفهم معانيها، ولا يجب عليه أن يحفظ ألفاظها، وذلك لتكرر ذكر هذه الصفات في القرءان كثيرًا إما لفظًا كصفتي السمع والبصر فقد وردتا باللفظ في قوله تعالى: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11)﴾ سورة الشورى، وإمّا معنًى كقوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ سورة الشورى/11، فإنه يُفهم من هذه الآية مخالفتُه عز وجل للحوادث أي عدم مشابهة الله تعالى لشىء من مخلوقاته بصفة من الصفات، وصفات الله تعالى أزلية أبدية باتفاق أهل الحق لا تشبه صفات البشر. وهذه الصفات الثلاث عشرة هي:
الوجود والوحدانية والقِدَم –أي الأزلية- والبقاء وقيامه بنفسه والقدرة والإرادة والعلم والسمع والبصر والحياة والكلام وتنزهه عن المشابهة للحوادث أي المخلوقات.
الصفة الأولى: الوجود
الله تعالى موجود أزلًا وأبدًا لا شك في وجوده قال الله تعالى: ﴿أَفِي اللَّهِ شَكٌّ﴾ سورة إبراهيم/10، أي لا شك في وجود الله تعالى، وليس وجوده تعالى بإيجاد مُوجِدٍ. والله تعالى موجود بلا كيف ولا مكان، قال الإمام علي رضي الله عنه: “كان الله ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان”، وقال الإمام أحمد الرفاعي رضي الله عنه: “غاية المعرفة بالله الإيقان بوجوده تعالى بلا كيف ولا مكان” أي أقصى ما يتوصل إليه العبد من معرفة الله أن يوقن أي يعتقد اعتقادًا جازمًا أن الله تعالى موجود، وأنه لا شكل ولا كيف له وأنه لا يحويه مكان. فمعرفتنا نحن بالله ليست على سبيل الإحاطة لأنه لا يعلم الله على الحقيقة إلا الله، بل معرفة الله تكون بمعرفة ما يجب لله من صفات الكمال التي تليق به كالعلم والسمع والبصر وغيرها من الصفات الواجبة له، وبمعرفة ما يستحيل عليه من صفات النقص الذي لا يليق به كالجهل والعجز واللون والجسم، وبمعرفة ما يجوز في حقه تعالى كإيجاد شىء -أي إبرازه من العدم إلى الوجود -وإعدامه- أي إفنائه.
والدليل العقلي على وجود الله تعالى هو أنه قد رسخ في عقولنا أن الفعل لا بد له من فاعل، فالضربة لا بد لها من ضارب، والنسخ والكتابة لا بد لهما من ناسخٍ كاتبٍ، والبناء لا بد له من بانٍ، وهذا العالم المؤلف من العالم العلوي وهو السموات وما فيها وما فوقها والعالم السفلي من الأرضين وما فيها وما تحتها لا بد له من باب أولى من خالق خلقه على هذا النظم والترتيب وهو الله تعالى الذي لا يشبهه بوجه من الوجوه.
الصفة الثانية: الوحدانية
الله تعالى واحد لا شريك له، واحد لا من طريق العدد، لأن الواحد من الأعداد قابل للقسمة فيصير نصفًا أو ربعًا، وقابل للزيادة فيصير اثنين أو أكثر من ذلك، قال الله تعالى: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ سورة البقرة/163، وقال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه: “والله واحد لا من طريق العدد ولكن من طريق أنه لا شريك له”. والله تعالى ليس مركَّبًا مؤلَّفًا من أجزاء كالأجسام، فالعرش وما دونه من الأجسام مؤلف من أجزاء فيستحيل أن يكون بينه وبين الله مشابهة، فلا نظير لله تعالى في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. والدليل العقلي على وحدانية الله هو أنه لو كان متعددًا لم يكن العالم منتظمًا، وذلك أنه من شرط الإله أن يكون حيًّا عالـمًا قادرًا مريدًا مختارًا، والمختاران يجوز عليهما الاختلاف في اختيارهما، فلو كان للعالم مُدَبّران لوجب أن يكون كل واحد منهما حيًّا عالـمًا قادرًا مريدًا مختارًا، فلو أراد أحدهما خلاف مراد الآخر أي لو أراد أحدهما مثلًا إحياء زيد وأراد الثاني موته فلا يخلو إما أن يتم مرادهما أو أن يتم مراد أحدهما ولا يتم مراد واحد منهما، ومستحيل أن يتم مرادهما معًا لأنه يستحيل أن يكون زيد حيًّا وميتًا في آن واحد، وإن تم مراد أحدهما ولم يتم مراد الآخر فالذي لم يتم مراده عاجز والعاجز لا يصلح أن يكون إلهًا. والعالم منتظم فثبتت الألوهية لإله واحد وهو الله تعالى، وهذه الدلالة تسمى عند علماء التوحيد دلالة التمانع وهذا مأخوذ من قوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءالِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ سورة الأنبياء/22، و”في” هنا بمعنى اللام أي لو كان للسموات والأرضين آلهة غير الله لفسدتا.
الصفة الثالثة: القِدَم
الله تعالى قديم بمعنى أنه لا بداية لوجوده ولا قديم بهذا المعنى إلا الله فهو وحده الأزلي بهذا المعنى، وكل ما سوى الله له بداية أي لم يكن موجودًا بل كان معدومًا ثم وجد. فالإله لا بد أن يكون أزليًا أي لا بداية له- وإلا لاحتاج إلى من يوجده أي يُبرزُهُ من العدم إلى الوجود والمحتاج إلى غيره لا يكون إلهًا، قال الله تعالى:
﴿هُوَ الأَوَّلُ﴾ سورة الحديد/3، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كان الله ولم يكن شىء غيره“، أي أن الله لم يزل موجودًا في الأزل ليس معه غيره، لا ماء ولا هواء ولا أرض ولا سماء ولا عرش ولا كرسي ولا ملائكة ولا زمان ولا مكان. ومن قال عن غير الله إنه أزلي بمعنى أنه لا بداية له فهو كافر مكذب لله ولرسوله. فليس العالم أزليًا مع الله لا بجنسه ولا بأفراده، وقد نقل المحدث الأصولي بدر الدين الزركشي تكفير الفريقين من الفلاسفة، الفريق القائل بأزلية العالم بجنسه فقط والفريق الثاني القائل بأزلية العالم بجنسه وأفراده، وذلك في كتابه تشنيف المسامع حيث قال ما نصه: “وضلَّلهم المسلمون في ذلك وكفَّروهم “.
وقد يطلق على المخلوق أنه قديم وأزلي بمعنى أنه مرَّ عليه زمان بعيد، قال الله تعالى عن القمر: ﴿حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)﴾ سورة يس/39، وقال الفيروز آبادي صاحب القاموس المحيط وهو كتاب في اللغة: “والهرمان بناءان أزليان بمصر” وقال: “بُلَيْدَة أزلية” أي مرَّ عليها زمن طويل، أما إطلاق الأزلي والقديم على شىء غير الله بمعنى أنه لا بداية له فهذا ضلال بعيد.
الصفة الرابعة: البقاء
يجب لله تعالى البقاء بمعنى أنه لا نهاية له، فالله باقٍ لا يلحقه فناء، لأنه لما ثبت وجوب قدمه تعالى وجب له البقاء، وبقاء الله تعالى ذاتي أي ليس بقاؤه تعالى بإيجاب غيره له البقاء، بل هو استحقه لذاته، قال الله تعالى:
﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ (27)﴾ سورة الرحمن، أي ذاتــه، وأمـا بــقاء غــيـر الله تــعــالى كبقاء الجنة والنار فليس بقاؤهما بذاتهما بل لأن الله شاء لهما البقاء. فالجنة والنار من حيث ذاتهما يجوز عليهما الفناء عقلًا لأنهما مخلوقتان والمخلوق يجوز في العقل عدمه وفناؤه ولكن الله أخبر ببقائهما وعدم فنائهما فاستحال فناؤهما ووجب بقاؤهما، قال الله تعالى إخبارًا عن نعيم المؤمنين في الجنة: ﴿وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ سورة النساء/57، وقال تعالى في إخباره عن جزاء الذين كفروا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)﴾ سورة النساء.
الصفة الخامسة: القيام بالنفس
يجب لله القيام بالنفس بمعنى أنه مستغنٍ عن كل ما سواه، فلا يحتاج إلى أحد من خلقه إذ الاحتياج للغير علامة العجز والعجز نقص والله تعالى منزه عن ذلك.
وكل شىء سوى الله تعالى محتاج إلى الله لا يستغني عن الله طرفة عين، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)﴾ سورة فاطر. والله تعالى لا ينتفع بطاعة الطائعين ولا ينضر بعصيان العصاة، فالله متفضل على الطائع بإقداره على الطاعة ولا ينتفع الله بطاعته، إنما النفع يحصل للطائع نفسه وذلك بالثواب الجزيل عند الله في الآخرة، والله أقدر العاصي على المعصية ولا ينضر الله بمعاصي العبد إنما الضرر يكون للعاصي نفسه بالخزي والعقاب يوم القيامة.
ولا يوصف الله بالظلم لأنه تعالى يتصرف في ملكه كما يشاء، ونحن وكل ما في هذا العالم ملك لله يتصرف فيه كيف يشاء، قال تعالى: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ (46)﴾ سورة فصلت.
يجب لله القدرة فهو تعالى موصوف بقدرة أزلية أبدية يؤثر بها في الممكنات العقلية أي في كل ما يجوز في العقل وجوده وعدمه. قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ (120)﴾ سورة المائدة.
واعلم أن أقسام الحكم العقلي ثلاثة: جائز عقلي أو ممكن عقلي وقد تكلمنا عنه وواجب عقلي وهو الذي لا يقبل العدم وهو الله وصفاته ومستحيل عقلي وهو الذي لا يقبل الوجود كالشريك لله.
فقدرة الله تتعلق بالجائز العقلي ولا تتعلق بالواجب ولا بالمستحيل، لأن الله تعالى بقدرته يوجد ويُعدم، والواجب لا يقبل العدم أصلًا فلا تتعلق القدرة به، والمستحيل لا يقبل الوجود أصلًا فكذلك لا تتعلق القدرة به، ولذلك يمتنع أن يقال هل الله قادر على أن يخلق مثله، والجواب عن هذا السؤال أن يقال: وجود المثيل والشريك لله مستحيل، وقدرة الله لا تتعلق به. وتقريب ذلك أنه لا يقال عن الحجر عالم ولا جاهل لأن هاتين الصفتين -أعني العلم والجهل- لا يتصف بهما الحجر، لأن مُصَحِّح الاتصاف بالعلم والجهل الحياة أي أن شرط المتَّصف بالعلم أو الجهل أن يكون حيًّا.
والبرهان العقلي على وجوب القدرة لله تعالى هو أنه لو لم يكن قادرًا لكان عاجزًا ولو كان عاجزًا لم يوجَد شىء من المخلوقات والمخلوقات موجودة بالمشاهدة فثبت أن الله قادرٌ، والعجز نقصٌ والنقص مستحيل على الله إذ من شرط الإله الكمال.
والله تعالى أعلم وأحكم.█