الـحـمد لله رب العالـمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الـحسن صلوات الله البر الرحيـم والـملائكة الـمقربين على سيدنا مـحـمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.

أما بعد فقد قال الله تبارك وتعالى في محكم كتابه: ﴿إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا (103)﴾ سورة النساء، أي أن الله فرض على المؤمنين أداء الصلاة في أوقاتها، وتوعّد تبارك وتعالى تاركها بالويل الذي هو العذاب الشديد بقوله عز وجل: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ (5)﴾ سورة الماعون، أي الويل لمن يؤخر الصلاة عن وقتها بغير عذر حتى يدخل وقت الصلاة الأخرى، وهذا معنى السهو في هذه الآية. والصلاة هي أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وصحتها متوقفة على أدائها كما أمر الله سبحانه وتعالى بأداء أركانها واستجماع شروطها وتجنّب مبطلاتها، ومن شروط صحة الصلاة: الطهارة من الحدث الأكبر بالغسل أو التيمم لمن عجز عن الغسل، والطهارة عن النجاسة في البدن والثوب والمكان والمحمول له، أي الشىء الذي  يحمله في جيبه كقنينة أو ورقة أو غير ذلك، ودخول وقت الصلاة، والستر بما يستر لون البشرة لجميع بدن المرأة الحرة إلا الوجه والكفين وبما يستر ما بين السرة والركبة للذكر. وأيضًا من شروط صحة الصلاة استقبال القبلة، وهذا الشرط هو الذي سنشرحه في مقالنا هذا.

إن استقبال القبلة بالصدر لا بالوجه شرط لصلاة القادر على الاستقبال، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “صلوا كما رأيتموني أصلي” رواه ابن حبان. وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم ركع ركعتين قِبَلَ الكعبة أي ركع وهو متوجه إليها وقال: “هذه القبلة” رواه مسلم، فنحن مأمورون بفعل الصلاة على الهيئة التي كان يصلي عليها نبينا محمد بالتوجه إلى القبلة وهي الكعبة الشريفة.

فالقادر على استقبال القبلة واجب عليه استقبالها في الصلاة، والمراد استقبال جِرْمها أو ما يحاذي جِرْمها إلى السماء السابعة أو الأرض السابعة، وسنبيّن كيفية استقبالها على مذهب الإمام الشافعي مُفَرِّقين بين من يعلم أين الكعبة -كأن كان يراها- وبين من لا يشاهدها لحائل أو بُعد فهذا هو الذي يجتهد.

سنتكلم أولًا عن شخص يرى الكعبة أو يخبره عن مكانها شخص ثقة يراها، فلا يخفى عليكم أن هذا يتوجه إلى الكعبة من غير اجتهاد لأنه يعلم أين هي القبلة.

أما الذي لا يرى الكعبة الشريفة ولا يخبره عن جهتها شخص ثقة يخبر عن مشاهدة، فهذا الذي يجتهد في اتجاه القبلة. والاجتهاد يكون بأدلة وهي كثيرة أقواها الشمس والنجوم. قال عليه الصلاة والسلام: “إنَّ خِيارَ عبادِ الله الذين يُراعون الشمسَ والقمرَ والنجومَ والأظِلّةَ لِذِكْرِ الله” أي الصلاة، رواه البيهقي.

الاجتهاد بالنجوم

قد أجمع الفقهاء على أن أقوى أدلة القبلة النجم، وذلك لأن النجم الذي يسمى النجم القطبي يلازم جهة واحدة وهي الشمال في كل الليالي، والنجم القطبي من ضمن مجموعة بنات نعش الصغرى، فالنجم المنفرد في الأعلى هو النجم القطبي، ثم قال العلماء: إن البلاد التي تكون شمالي الكعبة أي إلى جهة ذلك النجم يستقبلون الجنوب كبَرِّ الشام وأوروبا وما وراءها كلهم قبلتهم أن يضعوا ذلك النجم وراء ظهورهم، وكـثـيـر مـن هـذه الـبلاد يـكـون فـيـها الميل إلى الجنوب الشرقي أكثر. وأما البلاد التي تكون جهة جنوبي الكعبة فقبلتهم أن يتجهوا إلى الشمال وذلك كاليمن والحبشة فيكون استقبالهم لهذا النجم استقبالًا لجهة الكعبة. ولكن في بعض هذه البلاد يكون ميلهم قليلًا إلى الشرق وبعضهم قليلًا إلى الغرب، على هذا انعقد إجماع المسلمين.

الاجتهاد بالشمس

ليعلم أن للشمس مشارق ومغارب فيختلف مشرقها ومغربها بحسب فصول السنة.

فيأخذ المصلي الوسط بين هذه المشارق والمغارب لتحديد الشرق والغرب فيعرف الجهات حتى يبني اجتهاده عليها.

فمن كان يستطيع الاجتهاد لا يقلد مجتهدًا آخر في هذه المسألة كما قال النووي في كتابه منهاج الطالبين: “ومن أمكنه علم القبلة حرم عليه التقليد والاجتهاد، وإلا –أي وإن لم يمكنه علمُ القبلة– أخذ بقول ثقة يخبر عن علم –أي عن مشاهدة– فإن فقد وأمكن الاجتهاد حَرُم التقليد”. ثم قال: “ومن عجز عن الاجتهاد وعن تعلم الأدلة كأعمى قلد ثقة عارفًا”.

إن أخبرنا ثقة قد عاين على مدار السنة أين تشرق الشمس أو أين تغرب فنستطيع أن نأخذ بكلامه، فنضع جهة المشرق على يسارنا والمغرب على يميننا ونميل قليلًا كلُّ بلد على حسب اتجاهه من القبلة كما تقدم.

المحاريب القديمة

يعتمد على المحاريب القديمة في المساجد القديمة التي دخلها العديد من العلماء وصلَّوا إلى جهة المحراب، ولم يطعن بهذا المحراب أحد-أي لم يقل أحد من العلماء إن هذا المحراب اتجاهه خطأ- فهذا المحراب يعتمد عليه ويكون بمنزلة من يخبر عن علم.

هكذا يكون الشخص قد عرف أين الكعبة أي عَيَّنَ عينَها بحسب اجتهاده على القول الأقوى في مذهب الإمام الشافعي.

وعـنـد بـعـض الـعـلماء كالإمـام مـالـك والإمام أبي حنيفة وعلى القول الضعيف عند الشافعية أنه يكفي معرفة الجهة وإصابة جهة القبلة في الصلاة، ولكل مذهب شروطه.

البوصلة

وأما البوصلة “بيت الإبرة”: فيجوز الاعتماد عليها لمعرفة الجهات إن كانت مجربة، وتكون مجربة إما على نحو النجم القطبي أو المحاريب القديمة.

والله تعالى أعلم وأحكم.█