لما بلغ الحجاج بن يوسف الثقفي ذكر سعيد بن جبير رحمه الله تعالى بعد قتله عبد الرحمن بن الأشعث، أرسل إليه قائدًا من أهل الشام من خاصة أصحابه، فبينما هم يطلبونه إذا هُمْ براهبٍ في صومعة له، فسألوه عن سعيد بن جبير فقال الراهب: صفوه لي، فوصفوه له فدلّهم عليه. فانطلقوا فوجدوه ساجدًا يناجي ربه تعالى بأعلى صوته فدنوا منه وسلّموا عليه فرفع رأسه ولما أتم صلاته ردّ عليهم السلام، فقالوا له: إن الحجاج أرسل إليك فأجبه. فقال: ولا بدَّ من الإجابة؟ قالوا: لا بدّ. فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قام يمشي معهم.
تذلل السبع لسعيد بن جبير
ولما وصلوا إلى دير الراهب، قال الراهب: يا معشر الفرسان أصبتم صاحبكم؟ قالوا: نعم. فقال لهم: اصعدوا الدير فإن اللبوة والأسد يأويان حول الدير فعجّلوا الدخول قبل المساء ففعلوا ذلك، وأبى سعيد رضي الله عنه أن يدخل الدير، فقالوا: إن ندعك فإن السبع تقتلك، فقال سعيد: إن معي ربي -أي يحفظني- يصرفها عني ويجعلها حرّاسًا حولي تحرسني من كل سوء إن شاء الله تعالى. فقالوا: فاحلف لنا أنك لا تبرح، فحلف لهم. فقال لهم الراهب: اصعدوا الدير وأوتروا القسي لتنفروا السباع عن هذا العبد الصالح، فدخلوا وأوتروا القسي فإذا هم بلبوة قد أقبلت، فلما دنت من سعيد بن جبير تمسّحت به ثم ربضت قريبًا منه، ثم أقبل الأسد فصنع مثل ذلك.
دخلت الهيبة قلبه فما كان منه إلا أن أسلم
لما رأى الراهب ذلك دخلت في قلبه هيبة، فلما أصبحوا نزلوا إليه فسأله الراهب عن شرائع دين الإسلام وسنن النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره سعيد بذلك، فأسلم الراهب وحَسُنَ إسلامه. وأقبل القوم على سعيد يعتذرون إليه ويُقَبِّلون يديه ورجليه، ويقولون: يا سعيد حلّفنا الحجاجُ بالطلاق والعتاق، إن نحن رأيناك لا ندعك حتى نأخذك إليه فمرنا بما شئت. فقال سعيد: امضوا لشأنكم فإني لائذ بخالقي -أي معتصم به- ولا رادّ لقضاء ربي.
فساروا حتى وصلوا إلى واسط، فلما انتهوا إليها قال لهم سعيد رضي الله تعالى عنه: يا معشر القوم لست أشكّ أن أجلي قد قرب وحضر، وأن المدة قد انقضت ودنت، فدعوني الليلة آخذ أهبة الموت، وأستعدّ لمنكر ونكير، وأذكر عذاب القبر، فإذا أصبحتم فالميعاد بيني وبينكم المكان الذي تريدون.
فنظروا إلى سعيد بن جبير وقد دمعت عيناه واغبر لونه وكان لم يأكل ولم يشرب ولم يضحك منذ لقوه وصحبوه، فقالوا جميعًا: ليتنا لم نعرفك ولم نرسل لك، الويل لنا كيف ابتلينا بك؟! فاعذرنا عند خالقنا يوم الحشر الأكبر. فلما فرغوا من البكاء والمجاوبة له ولهم، قال كفيله: أسألك بالله يا سعيد إلا ما زودتنا من دعائك وكلامك فإنا لن نلقى مثلك أبدًا. فدعا لهم سعيد رضي الله عنه ثم خلوا سبيله فغسل رأسه ومدرعته وكساءه، وأقبل على الصلاة والدعاء والاستعداد للموت ليله كله، فلما انشق عمود الصبح جاءهم سعيد بن جبير رضي الله عنه فقرع الباب فقالوا: صاحبكم ورب الكعبة، فنزلوا إليه فبكى وبكوا طويلًا ثم ذهبوا به إلى الحجاج.
مثول سعيد أمام الحجاج
دخل الملتمس على الحجاج فسلم عليه وبشره بقدوم سعيد بن جبير فلما مثل بين يديه قال له: ما اسمك؟ قال: سعيد بن جبير. فقال: بل أنت شقي بن كسير. فقال سعيد متهكمًا به: بل أمي أعلم باسمي منك!!! وبعد أخذ ورد وسؤال وجواب أمر الحجاج باللؤلؤ والزبرجد والياقوت وغير ذلك من الجواهر فوضعت بين يدي سعيد رضي الله عنه، فقال سعيد: إن كنت جمعت هذا لتُفْدى به من فزع يوم القيامة فصالح وإلا ففزعة واحدة تذهل كل مرضعة عما أرضعت، لا خير في شىء جمع للدنيا إلا ما طاب وزكا.
ثم دعا الحجاج بآلات اللهو فضربت بين يدي سعيد فبكى سعيد. فقال الحجاج: ويلك يا سعيد، فقال سعيد: الويل لمن زحزح عن الجنة وأدخل النار. فقال: يا سعيد أي قتلة تريد أن أقتلك بها؟ قال: اختر لنفسك يا حجاج فوالله لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة. قال: أتريد أن أعفو عنك؟ قال: إن كان العفو من الله فنعم وأما منك فلا. فقال: اذهبوا به فاقتلوه.
اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي
فلما أخرج من الباب ضحك، فأخبر الحجاج بذلك فأمر برده فقال: ما أضحكك وقد بلغني أن لك أربعين سنة لم تضحك؟ قال: ضحكت عجبًا من جرأتك على الله ومن حلم الله عليك، فأمر بالنطع فبسط بين يديه وقال: اقتلوه. فقال سعيد: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ﴾ سورة آل عمران/185، ثم قال: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)﴾ سورة الأنعام، قال: الحجاج: وجّهوه لغير القبلة. فقال سعيد: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ سورة البقرة/115، فقال: كبوه على وجهه. فقال: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)﴾ سورة طه، فقال الحجاج: اذبحوه. فقال سعيد: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله. ثم قال: اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي. فذبح على النطع رحمة الله تعالى عليه، فكان رأسه يقول بعد قتله: لا إله إلا الله مرارًا. وقد حصل ذلك في شعبان سنة خمس وتسعين وكان عمر سعيد تسعًا وأربعين سنة، وعاش الحجاج بعده خمس عشرة ليلة، ولم يسلط على قتل أحد بعد سعيد.
وقد روي عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه رأى الحجاج في المنام بعد موته وهو جيفة منتنة، فقال له: ما فعل الله بك، قال: قتلني بكل قتيل قتلته قتلة واحدة إلا سعيد بن جبير فإنه قتلني به سبعين قتلة. █