حصلت هذه الحادثة منذ فترة بعيدة وقد كنت يومها أسير في الطريق مشيًا على الأقدام. كان الجو حارًا حيث كنا في أواسط شهر تموز. كان الملل قد أصابني فلم أعلم أين تقودني رجلاي، وبينما أنا أسير إذ سمعت صوتًا ينادي: تفضل يا أستاذ… استدرت وجلت ببصري فلم أرَ أحدًا سوى المارة ولكن الصوت كان قريبًا، عندها عاد الصوت يقرع أذنيَّ من جديد: تفضل يا أستاذ! نظرت إلى مصدر الصوت فإذا برجل جالس على كرسي صغير وأمامه صندوق فعلمت أنه ماسح الأحذية… نظرت إلى وجهه فابتسم بكل طيبة وبدت على وجهه سمات الأدب. كان رجلًا في العقد الرابع من العمر تقريبًا، اقتربت منه وحييته ثم وضعت رجلي اليمنى على المكان المخصص وقلت له بأدب: أنت رجل تبدو عليك صفات الطيبة والاحترام، فبادرني وقال: سيدي هذه ليست مهنتي وقد امتهنتها منذ فترة قصيرة. أصابني الفضول لمعرفة ما يخفي هذا الرجل ودارت الأسئلة في داخلي وحاولت جاهدًا أن أكشف كُنه هذا الرجل بعد أن كاد يكون لغزًا…

وقبل أن أسأله بادرني قائلًا: سأوضح لك كل ما أظن أنه جال في خاطرك من أفكار وتساؤلات. ازداد لهفي لسماع ما سيقول وسرت في جسدي رعشة لم أستطع أن أخفيها وهو يلاحظ كل ذلك، ثم قال: أنا من أسرة متواضعة وأنا وحيد لوالديّ، كان والدي يخرج صباحًا كل يوم ولا يعود إلا في المساء مرهقًا يرسم ابتسامة عند دخوله المنزل… دأب على تعليمي وتربيتي وبذل مجهودًا كبيرًا وكان يشدّ على ساعدي لكي أنجح وأكون ساعي خير ورجلًا مرموقًا في المجتمع.

فجأة توفيت والدتي فوقع هذا الأمر عليّ بكل ثقله وكانت الصدمة على والدي كبيرة ومؤلمة جدًا، فإن ركنًا عظيمًا من أركان المنزل هوى وترك فينا شعور الأسى والإحباط…

أدرك والدي منذ تلك اللحظة أهمية الحفاظ على ما تبقى من أسرته وهو أنا بكل الوسائل المتاحة مع عظم الأمر وفداحته…

وعمل على تبديد أجواء الحزن يومًا بعد يوم، فلم يتزوج مرة أخرى بل جعل كل وقته بالكد والعمل ليل نهار لتربيتي وتعليمي أحسن تعليم.

في هذه المرحلة دخلت الجامعة ودرست في كلية إدارة الأعمال، ومن ثم تخرجت بنجاح وتفوق، وكانت فرحة والدي لا توصف، فقد شعر أن إنجازًا مهمًا قد تحقق…

عملت في إحدى الشركات وكنت موظفًا ناجحًا وكان والدي فخورًا بي متابعًا لخطواتي… وفي يوم من الأيام عدت من عملي إلى المنزل ولما دخلت تفاجأت إذ رأيت والدي مستلقيًا والعرق يتصبب منه! هرعت إليه فابتسم ابتسامة صغيرة وقال لي: لا تخف، اليوم تعبت في عملي وعدت باكرًا، يبدو أنني مريض بسبب تغير الجو…

حاولت جلب الطبيب له لكنه رفض وألح بأن هذا عارض ويزول، ولا داعي للطبيب…

يومًا بعد يوم لم يعد والدي يذهب إلى عمله إلا ساعات ويعود إلى المنزل. توالت الأيام وأصبحت صحة والدي في تدهور مستمر حتى بات يحتاج إلى من يعينه ويهتم به في المنزل ولم يعد باستطاعته الكلام بسبب شلل أصابه. وكنت أتخبط ولا أدري ماذا أفعل فالتجأت إلى أحد الأصدقاء طالبًا النصيحة والاستشارة فأشار عليّ بالزواج…

وهذا ما حصل فعلًا فقد تقدمت بطلب الزواج من بنات إحدى الأسر وشرحت لهم بالتفصيل الوضع الذي أعيشه ووضع والدي الصحي والرعاية التي يحتاج لها. فوافقوا وأبدت الفتاة التزامها بالوضع الراهن… تزوجتها وعشت معها أيامًا سعيدة وشعرت بالارتياح للخدمة التي تؤديها تجاه والدي. ولكن بعد مضي زمن قصير بدأت المشاكل تنهال على رأسي فقد صارت زوجتي تشكو كل يوم من خدمة والدي حتى طلبت مني أن أضعه في مأوًى للعجزة!!!

صعقت بهذا الكلام ورفضت رفضًا تامًا اللجوء إلى هذا الحلّ، ولكن مع مرور الأيام، ازدادت عصبية زوجتي ومشاكلها إلى أن أخذْتُ قرارًا بوضع والدي في المأوى. كان القرار صعبًا وظننت أني سأرتاح وستحلّ المشاكل… ولكن الذي حصل بعد فترة أني طلّقت زوجتي وخسرت عملي وأصبت بأمراض كثيرة كان آخرها في الأعصاب ومنعني من الاستمرار في مهنتي وصرت وحيدًا في عزلة تامّة وتوفي والدي فازدادت همومي وكروبي، والآن كما ترى أعمل بما يسدّ رمقي ولكي لا أحتاج إلى أحد من الناس…

ثم قاطعته فسألته: ماذا كان يعمل والدك؟ فقال: ماسح أحذية!!!█